«ملكات سورية» و«العودة إلى حمص»

سينما تصرخ.. وتتــشح بالسواد

تتعدد الحكايات وتختلف الوجوه والأصوات، لكن المأساة واحدة في الفيلمين. من المصدر

تتعدد الحكايات، وتختلف الوجوه والأصوات، وحتى نوع الصرخات؛ لكن المأساة واحدة، عندما تتعلق بسورية، وهذه الحكايات كانت حاضرة وبقوة في الدورة الثامنة من مهرجان أبوظبي السينمائي الذي عرض فيلمين وثائقيين، هما «ملكات سورية» الذي نالت عنه مخرجته ياسمين فضة جائزة أفضل مخرج عربي، و«العودة إلى حمص» لمخرجه طلال ديركي الذي نال تنويهاً خاصاً بعد جوائز عدة حصل عليها في مهرجانات دولية.

المزج بين الفيلمين، مع أن طريقة تناول الحكاية مختلفة، يندرج تحت عنوان «سورية» كيف كانت وكيف أصبحت، الهواجس التي سيطرت على عقول أبطال الفيلمين، صرخاتهم، تمرّدهم حيناً وخوفهم حيناً، مشاعر متداخلة بين الأمس واليوم، والغد المجهول الذي بات مسيطراً أكثر فأكثرعلى عقولهم وقلوبهم، ويتفق أبطال الفيلمين في الكثير، والاختلاف فقط في طريقة إيصال الرسالة.

ومن الواضح أن مخرجين سوريين باتوا على يقين بأن رسالتهم يجب أن تصبح عالمية، فهم بحاجة إلى دعم العالم لهم، عبر تقديم شيء لا يختلف كثيراً عن ما تتناوله نشرات الأخبار، بل طريقة العرض والفكرة هي التي تختلف، مؤمنين بأن السينما جزء من النضال.

 

«ملكات سورية»

فيلم «ملكات سورية»، الذي عرض للمرة الأولى عالمياً في مهرجان أبوظبي السينمائي، مدعوماً من صندوق سند، مبنيّ على أسطورة طروادة، وتحديداً أسيرات طروادة، حيث اعتمدت المخرجة ياسمين فضة على جمع أكثر من 70 لاجئة سورية في الأردن، غالبيتهن متشحات بالسواد، بينهن المحجبات والمنقبات والمتمردات، خليط نسوي لمجتمع كامل، وحين تتحدث النساء يجب على العالم أن يسمع، فعبراتهن ليست تمثيلاً بل حقيقة، وصراخهن وهن يتعلمن فن الصوت المسرحي حقيقة، والأهم أن حكايتهن ليست أسطورة، بل حقيقة مرّة.

فضة، نقلت ورشات تدريب مسرحية، عرضت فعلاً في الأردن، وأرادت تصوير الكواليس، ومشاعر النسوة، وتخبطاتهن، وصراخاتهن، وعمدت إلى أن تحول ورشة مسرحية إلى عدسة سينمائية، تقترب من العيون، وتنقل رجفات الصوت، واهتزاز الرؤوس، والقشعريرة أيضاً، استطاعت أن تدخل حياتهن، بيوتهن، وعلاقتهن مع أزواجهن، خصوصاً أن عدد النسوة في العمل المسرحي تقلص إلى أن وصل إلى 20 امرأة، حاولت فضة أن تنقل الصورة الشاملة، هن ابتعدن عن بيوتهن، عن مملكتهن، خوفاً من براميل وقناصين، وحاقدين، لكن مازال يعيش بعضهن تحت سطوة الرجل المتحكم حتى في أحلامهن.

فالطرواديات اللواتي غادرن مدينتهن بعد أن هزمهن الإغريق، اختلفت الروايات حولهن بين تصديق وتكذيب، لكن هذه المرة ملكات سورية هن من لحم ودم وخيمة.. لاجئات، وما أصعب هذا الوصف لمن كان يمتلك يوماً بيتاً وتهدم أمام عينيه.

إحداهن وهي تقرأ قصة قبل النوم لأطفالها تقول: «إحساسي إنّه في عندي صرخة، وبدي أصرخها، خلي كل العالم يسمعها». وتسأل أخرى «يا ترى في نتيجة؟».

وتظهر في رسالة لإحدى المشاركات على خشبة المسرح «بنتي حبيبتي علا، مبروك الزواج، كنت حابه أفرح فيك وأعمل عرسك بصالة»، فتردّ الأخرى «لا البيت بيتنا، ولا المكان مكاننا ولا البلد بلدنا».

ليلة العرض، ومع أن ملكات سورية اتشحن بالسواد، تجلس إحداهن وتقول «كيف مات؟»، وتجيب «هاد سؤال ما بصير ينسأل، لأنه ما في جواب»، وتأتي لحظة الوقوف على المسرح، وقبلها تستعد النساء أمام المرايا لوضع المساحيق وترتيب حجابهن، يردن بالفعل أن يكنّ ملكات، يقفن مثلهن وبصوت واحد «انظري إليّ وستجدين مأساة تمشي على ساقين كنت أيتها الأم زوجة قائد عظيم».

لكن الحقيقة أن من وقفن على المسرح ووقف لهن الجمهور مصفقاً ومتأثراً لسن بملكات، بل لاجئات، مكلومات، حزينات، وكل الصفات التي لها علاقة بالظلم ونتائجه متجسدة في عيونهن، هن كن ملكات بيوتهن التي تهدمت وسرقت ونهبت، والآن لا يردن سوى العودة إلى تلك البيوت بكرامة.

 

«العودة إلى حمص»

«حمص.. عندما كان الدفء والغناء سيد الموقف».. عبارة ضمن عبارات كثيرة وردت في فيلم طلال ديركي المقيم في ألمانيا، لكن الذي حدث أن الحناجر اقتلعت في الموقف ذاته، والدفء لم يعد موجوداً، في حمص التي يطلق عليها «عاصمة الثورة» تجري أحداث حكاية ديركي، التي اختار أن يكون بطلها عبدالباسط الساروت، حارس مرمى نادي الكرامة الحمصي ومنتخب سورية، منذ اندلاع الأحداث السورية، أي منذ أكثر من ثلاث سنوات، وطريقة النضال التي اختلفت مع اختلاف المعطيات في طريقة تعاطي الساروت مع الأحداث الجارية، الساروت الذي كان يهتف ويغني، يختصر حكاية سوريين طالبوا بالحرية.

الصور الموجودة في الفيلم من الممكن أن تكون مرت في نشرات الأخبار، حيث اختار الساروت أن يقود الحراك الشعبي في منطقته حمص، لكن ما لم تشاهده في نشرات الأخبار، هو الساروت نفسه وهو بعيد عن كاميرا مراسلي الحرب من الشعب نفسه، وقريباً إلى كاميرا ديركي.

ديركي نفسه تشعر بأن مشاعره كانت حاضرة، كمشاعر الساروت الذي كان أمام كاميرته أقرب إلى حلمه أكثر، يفضي بهواجسه بشكل حر يريد أن تكون بلاده تشبه كل هذا البوح، يغني ويطرب كل من يجلس معه، يدعو الجيش الى أن يكون مع الشعب «يداً واحدة». أحلام الساروت وأمله في سورية حرة ديمقراطية مدنية كانت حاضرة وبقوة مع كل حرف ينطق به، صادق وشجاع، وبسيط في الوقت نفسه، يتلعثم حيناً، ويثق بحلمه أكثر. التحول الذي التقطه المصور أسامة الذي سجل كل تفصيلة في كل ما يحدث حول الساروت من تطورات أمنية، وتغييرات في القرارات، وردة الفعل عليها إلى أن اعتقل أسامة، ينقل بالفعل كيف تغير مسار الثورة عندما أصبحت وحيدة، في ظل تقاعس عالمي. الثائرون لم يحملوا السلاح، بل حملوا الميكروفونات، كانوا يغنون ويدبكون، ويتعرضون لعنف، تراقب عين المخرج المشاعر في كل الوجوه التي التقطها، الصمود، الخوف، اليأس، الثبات، التمرد، وحتى التديّن. وتحول الثائر بحنجرته إلى مقاتل يحمل السلاح للمرة الأولى في حياته، وهذا ما حدث مع الساروت. صوت المخرج الذي كان حاضراً بين المشاهد؛ غصته واضحة وهو يحكي عن شعب نكل به في ظل عدم وجود المخارج الكثيرة، صور الموت، الجوع، الخذلان، والمواجهة بين الشعب الواحد أمام جيش كان يوماً يغني له. عامان من التتبع، والكثير من التحولات، حتى الساروت نفسه الذي كان صوته مفعماً بالحياة والأمل، أصبح ملاحقاً أمنياً، وتمت إصابته بالرصاص في قدمه، في لحظة هذيانه وإفاقته من البنج يقول «لا اضيعوا دم الشهدا»، وهو الذي قال سابقاً واصفاً عنفوان الثورة «قدمك لن تلامس الأرض بعد الآن، لأنك ببساطة حر». وهو الذي غنى يوماً «يا وطن يا حبيب يا بو قليب الطيب، حتى نارك جنة».

في المشهد الأخير، ترى الساروت وهو يجلس في شاحنة تعلوها الأعلام السوداء، تقترب الكاميرا منه، تريد أن تنقل لغة عيونه إلى العالم وكأنه يقول «تذكروا أنني كنت أغني فقط»؛ ويشيح بوجهه عن الكاميرا وكأنه يقول «صمتكم هو السبب».

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر