مشاعر متناقضة وحالمة في الريف البريطاني
3 رجال وامرأة «بعيداً عن الصخب»
الفرق بين الحب من النظرة الأولى، والقبلة الأولى والمصلحة اذا جاز التعبير، يظهر جليا في فيلم «بعيدا عن الحشد الصاخب» للمخرج « توماس فينتربيرج » المتوفر حاليا في خدمة الفيديو والعديد من المواقع الالكترونية، لمن يحب أن يشاهد المختلف، ويشاهد الجماليات اذا تجسدت على شكل صور وحوار، ثلاث حالات مرتبطة بثلاثة رجال وقصصهم التي تدور حول امرأة واحدة، استطاعت ببساطة أن تجسد كل المشاعر المتناقضة من جهة والحالمة من جهة أخرى و الادعاء من جهات كثيرة، قامت بنقل الأحاسيس كلها الفنانة « كاري موليغن » بدور« باثشيبا إيفردين » ضمن مشاهد خلابة في ريف انجلترا، التي كانت بحد ذاتها طاغية على بضع مشاهد غير موفقة اتسمت بحوارات بسيطة، على الرغم من أن الفيلم مبني على رواية حملت العنوان نفسه للكاتب« توماس هاردي » ، وفي كثير من المحطات تستشعر هذه الروح من خلال خروج الأبطال من الصفحات إلى الشاشة. الفيلم من بطولة ماثياس شورنارتس، مايكل شين، و توم ستوريدج، ويدور حول باتشيبا الفتاة الريفية التي كانت تسكن عند عمتها الوحيدة قبل أن تصلها رسالة أنها اصبحت الوريثة الوحيدة لأملاك عمها، ومنذ تلك اللحظة تتغير الكثير من الأمور في حياتها حتى في المبادئ التي كانت تعلن عنها أنها تسعى للحرية وعدم الانقياد وتحدي التقليد.
لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط. |
النظرة الأولى وبالأحرى الحب من النظرة الأولى تستشعره لحظة ظهورغابرييل أوك، المزارع وراعي الخراف، شخصيته الجادة التي لا توحي برومانسية عالية متسقة مع كبرياء له علاقة بقيمته الاجتماعية والطبقية، لفتت انتباه باتشيبا التي كانت تقضي أوقاتها عند عمتها، تلتقي به ليس بصدفة وهذه الخاصية جزء من شخصيتها، هي تسعى للقاء دائما بمن تتوقع أنهم سيكونوا طوعا لشباكها، وفي لحظة لا تتوقعها يطلب غابرييل الزواج منها لترد عليه بجملة عائمة « لست موافقة ولست رافضة» هذه الجملة كانت كفيلة بأن تمنح الأمل لدى غابرييل، الذي يتعرض لخسارة مفاجئة عندما تقع خرافه من سفح الوادي، وهي اللحظة التي تستلم فيها باتشيبا ورقة ميراثها، وهنا اصبحت هي المالكة الغنية واصبح غابرييل الفقير الذي لن يجرؤ بالاقتراب منها لاستحالة قبولها به بعد خسارته المادية.
التفاصيل كلها ستكون موجودة في فترة انتقال باتشيبا إلى ممتلكات عمها في ريف انجلترا، هي تريد أن تتحدى المجتمع الذكوري المسيطر على هذا النوع من التجارة وتفرض نفسها بين كبار التجار الرجال الذين كانوا يستسخفونها كثيرا ، لكنها المرأة الذكية الجميلة المعتدة بنفسها والتي استطاعت فعلا أن تكسب الثقة بفترة قصيرة، خصوصاً مع ظهور صاحب أكثر المساحات الزراعية الثري السيد بولدوود، وهو شخصية فريدة من نوعها، اخلاصه لحب حياته التي فقدها جعله يقفل قلبه أمام العديد من النساء الذين يحلمن بالارتباط به، ومن رسالة بدأت كمزحة تريد باتشيبا من خلالها أن تثبت لنفسها وللكثرين قدرتها على تغيير الثابت، وقع السيد بولدوود بحبها، بل أصبح هائما بها.
التفصيلين السابقين عن الرجلين في حياة باتشيبا كان لا بد من المرور به، للفت الانتباه إلى كمية القرارات المتناقضة مع شخصية باتشيبا والتي ستنهار فور قرارها الزواج من الرقيب فرانك، الذي كان صاحب القبلة الأولى في حياتها، ولأجل هذا الشعور ولحبها للزي الرسمي، استطاع ببساطة أن يروضها ويحولها إلى تابعة ومنساقة.
في حضرة الرجلين يظل غابرييل الذي تحول إلى عامل في مزرعتها حاضرا وبقوة، هو يجسد الحب الصافي أو ما يقال عنه حب النظرة الأولى، هو الملجأ لباتشيبا دائما، تصب جام غضبها وشعاراتها الرنانة أمامه تحاول أن تعرف الأجوبة عن تساؤلاتها الكثيرة من تعابير وجهه، لكنها ترفض بحزم أن تعطيه الفرصة في الكلام، هي تدرك من داخلها أنها حب حياتها، لكن تناقضاتها هي التي جعلت من الاقتراب أكثر مستحيلا.
رتم الفيلم الهادئ الذي يشبه البرود في تعابير غالبية الفنانين، والذي لا يشبه الطبيعة التي يعيشون فيها، من مشاهد لا يمكن إلا أن تمنح كل من رآها طاقة لها علاقة ببناء توازن بصري وسمعي، بين حوارات وأداء الممثلين وبين مشهد عام من الصعب غض البصر عنه، توليفة فنية استطاع أن يديرها المخرج بشكل ساحر، ورومانسية متسقة مع موسيقى«» تعمل على تنبيه المشاهد دائما أن ثمة شيئ سيظهر سيكون جميلا على قدر كمية اللون الأخضر المكتسحة المكان، والأشجار وحتى شكل الخراف البيضاء، واصوات أجراسها، كل هذه التفاصيل استطاعت بالفعل أن تنتج فيلما ساحرا بمعنى الكلمة، من مجرد مشاهدتك إياه ستزيل الكثير من الهموم التي تثقل عقلك وقلبك، ستدرك أن ثمة جمال على هذه الأرض التي اصبح لون الدماء فيها لغة حوار، ستدرك أن ثمة لغة اسمها السينما تستطيع ببساطة أن تجيب عن الكثير من الأسئلة العالقة في ذهنك.
باتشيبا شخصية المرأة المتحولة، من المتوقع أن تقود الفنانة التي أدت دورها «كاري موليغن» إلى الترشح ل«الأوسكار» وللعديد من الجوائز، هي استطاعت فعلا أن تكون مستفزة في العديد من المشاهد، خصوصاً عندما قررت الزواج من الرقيب فرانك ، بمجرد أنه قبلها ، هي شعرت بشعور مختلف عنها فقررت أن هذا هو الحب، اذا تحولت المسألة من قصة مبدا له علاقة بالاستقلالية إلى الخضوع إلى الرغبة التي كانت اقوى منها ، على الرغم من تحذير الكثيرين لها عنه، هو يرتدي البزة العسكرية الاستعراضية، لكن اضعف من أن يكون صادقا بمشاعره، خصوصاً أنه يحب امرأة أخرى أخطأت بعنوان الكنيسة وقت زفافهما ، فاعتقد أنها ترفضه، وكأنه قرر الانتقام منها بزواجه من باتشيبا واستغلالها ماديا.
قبل هذا الزواج، تنتشر إشاعة بين أوساط المزارعين أن باتشيبا رفضت عرض الزواج من السيد بولدود، وينتكس مرة أخرى عاطفيا، وهو يدور بين الناس مؤكدا أنه لم يخطبها، لكن سحرها كان كفيلا بأن يصدقها الجميع، هو تقدم لها لكنها علقته، ولم تمنحه الجواب الذي يدل على رفضها.
غابرييل حاضر دائما، حاضر بالظل، يحميها ويحمي ممتلكاتها، لكنه غير قادر على حماية قلبها من الألم، ينظر لها يستمه اليها، يريد أكثر من مشهد الاقتراب منها ، لغة عيونه كفيله بترجمة كل مشاعر الحب التي يكنها له، انهار غابرييل من داخله لحظة زواج باتشيبا، لكن صلابته كانت اقوى من إظهار هذه المشاعر، استطاع فعلا الممثل ماثياس شورنارتس أن يتقن الدور ويتفوق كثيرا على كاري مولغن، خصوصاً في لغة الوجه، واستطاع أن يوصل رسالة إلى المشاهدين أنه الأفضل.
تكتشف باتشيبا استغلال زوجها لها، وهو بدوره يبدأ بالحديث عن حبيبته التي وجدها مصادفة وهي تشحذ النقود من المارة، تشعر باتشيبا بسكين مزق كرامتها، وتصر أن تثبت لنفسها أنها ستتفوق على غريمتها، حتى لو كان زوجها لا يحبها، وكأن القدر يريد لها هذا ، تموت حبيبة زوجها وهي تضع مولودها منه، ولحظة تشييعها يقترب زوجها من الجثة ويقبلها مع ترجي باتشيبا لها أن لا يفعل، ويقرر الرقيب فرانك الانتحار، ويغرق.
دور التفكير في المصلحة أو العقل يأتي فور انتشار خبر وفاة الرقيب فرانك، ليعود السيد بولدود للظهور، هوالآخر يريد إعادة قيمته الاجتماعية بين المزارعين، بعد أن اصبح اضحوكة، يستغل الحالة المادية المتردية التي وصلت لها باتشيبا بسبب الديون التي تسبب بها زوجها الرقيب فرانك، ويعرض عليها سداد كل شيئ، مقابل الزواج منه، هذه المرة وعدته باتشيبا بالتفكير، وسيكون الجواب في راس السنة، لكن القدر وبطريقة ساخرة يلعب لعبته، بأن يعود الرقيب فرانك إلى الحياة، لحظة تنكشف بها جميع الأقنعة، هو عاد لها لأنه بحاجة إلى نقودها، في اللحظة التي كانت من المفترض إعلان موافقتها على الزواج من السيد بولدود، يفقد كلاهما السيطرة على نفسه ويكشفان الأنا الكبيرة في دواخلهما، وتنتهي بطلقة من سلاح السيد بولود على صدر الرقيب فرانك، فيحكم بالإعدام.
تعيد باتشيبا بناء ذاتها مرة أخرى، تحاول العودة إلى مذكراتها وكتاباتها لتتذكر نفسها، تقف مرة أخرى على قدميها وتعيد الحياة إلى مشاريعها الزراعية، في اللحظة التي قرر بها غابرييل هذه المرة أن يبتعد ويرحل عنها، توافق باتشيبا، لكن ثمة حيوات أخرى تعيش معها، الكلب الذي تركه غابرييل لها، ومشهد المحصول والخضارعلى مد البصر، نظرات الفتاة التي تخدمها بأن اذهبي والحقي به، حزن الكلب، كل تلك العلاقات المتشعبة، قرارة قلبها الذي خضها هذه المرة بأن لا تضيع الفرصة لأسباب لها علاقة بالمشهد الاجتماعي، تمتطي حصانها مثلما امتطته أول مرة وهي تلحق به في مزرعة عمتها، تلحقه، وتوقفه، لا تريد أن تتنازل عن كبريائها، وتوعز كل هذا البعد أنه لم يكرر سؤاله عن رغبته الارتباط بها، خصوصاً عندما وقف أمامها وقال «هل من الممكن أن تمنحيني فرصة للحب مرة أخرى» وهي التي ذكرته قبلها أنها حب حياته، لتجيبه «أنت لم تسألني، فلذلك لن تعرف الاجابة أبدا» وتحثه على السؤال «اسألني غابرييل، اسألني» ليكون السؤال هو الإجابة نفسها، وخلاصة لمشاعر إمرأة لا تريد سوى سؤال يتكرر للمرة الثانية والثالثة عن حب يستجدى من رجل لتدرك كم هي غالية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news