حجز لنفسه مساحة في الرواية العربية منذ «الزيني بركات»

جمال الغيطاني.. تجليات راحلة

صورة

بعد غيبوبة الحافة الفاصلة بين الحياة والحياة الأخرى، استراح الكاتب جمال الغيطاني، وضع القلم الذي نجح في حفر جدارية أرابيسك عربية.. في الـ70 من العمر لبّى صاحب «التجليات» و«دفاتر التدوين»، «هاتف المغيب»، وطوى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» ورحل يوم الأحد الماضي.

لغة محلقة

كما عادة الغيطاني، تحلّق اللغة في رواية الزيني بركات، ورغم تعدد مستوياتها مع تنوع الأصوات، إلا أنها تتحول إلى قصائد نثرية، لاسيما في مقام الإفضاءات الذاتية، ووصف الحبيبة: «همسات نهار وليد، آه من ذوبان الوجد، لا يراها جسداً.. ونحراً وجيداً وعنقاً، هي إلى الروح أقرب، طيف خيال، وشوشة لا تمس، سوسنة لا تقطف، عينا ملاح فيهما حيرة». وفي مشهد آخر، يبدو الحزن العارم على ضياع الحبيبة (الرمز) وفقدان الأمل، لذا تنحو اللغة إلى رثاء الذات، وطلب التصبّر بمناجاة أخرى، تتداخل فيها المجازات التي تحتمل العديد من التأويلات، وتبرز عشق جمال الغيطاني للغة: «مسافات لا أول لها ولا آخر في عيني الساعي، والمسافر على قدميه، زاده عشق الذات العليا، وجد يشده إلى أقاصي الأرض يعبرها متأملاً العبر، يرثي المبتدأ والخبر، ما أوجع القلب في بيوت خراب، في بلاد عامرة نسي أهلها الأول والآخر، ما أعذب وقفة الملاح عند رأس قارب مفرود القلاع، الكون بحر، كله بحر، المركب يميل ليتعدل، يعتدل ليميل..». فثمة لغة تتماهى مع أصحاب الأحوال، لا ترى داعياً للروابط وحروف العطف، تقفز بين الأزمنة، بإيقاع سريع لاهث.

من شبه المتفق عليه أن ثمة محطات مركزية في مسيرة الرواية العربية، لا يمكن تجاوزها أو عبورها سريعاً، ومن بينها محطة المبدع جمال الغيطاني، الذي ترك للمكتبة العربية كنزاً يتجاوز 50 كتاباً، منوعاً ما بين الروايات واليوميات وأدب الرحلات.

منذ روايته الاستثنائية «الزيني بركات»، حجز الغيطاني لنفسه مساحة خاصة في كتاب الأدب العربي، فالرواية التي ظهرت في مطلع سبعينات القرن الماضي، شغلت الناس، نقاداً وقراء، وتناوب - ومازال يتناوب - عليها الباحثون، محاولين إعادة قراءتها، وتصنيفها، وفك رموزها: هل هي رواية واقعية أم تاريخية؟ وهل الزيني بركات يرمز إلى «فلان أم علان»؟ وأسئلة كثيرة يثيرها النقاد انطلاقاً من عوالم «الزيني بركات».

شكّلت القاهرة الفاطمية وما حواليها المكان المحوري الذي تنطلق منه وتدور فيه أحداث «الزيني بركات»، ليبرز بشكل خاص الأزهر وأحياؤه، والجمالية، وغيرها من الأمكنة التي هام بين دروبها الكاتب، وحرص على إبراز تفاصيلها؛ فثمة عشق خاص بين الغيطاني وتلك الفضاءات التي كان يعرفها مثل كفّ يده، ويعد أحد الخبراء بكل بيت وحارة في هذه المناطق التي نشأ فيها بعد أن ترك قريته الجنوبية بصعيد مصر، واستقر مع عائلته قريباً من المشهد الحسيني والأزهر.

«سعيد الجهيني»

تمثّل شخصية سعيد الجهيني نموذج المصري في الراوية، وهو طالب علم أزهري مشغول دوماً بحال العباد والبلاد، مراقب للأحداث عن كثب. يطلّ سعيد الجهيني (يلاحظ النسب إلى جهينة حيث مولد الغيطاني) بوجه ثائر مجروح، مؤرّق بالأسئلة، حالم بأذان يجمع الفقراء، وينبّههم إلى ضرورة الثورة على ظالميهم، وآكلي حقوقهم. ودائماً ما يبحث عن متنفس لهمومه، وأجوبة لأسئلته عند شيخه أبي السعود: «يتساءل ملوماً مقهوراً، كيف يجري هذا؟ كيف يمضي الإنسان بأرخص الأثمان لا دية له، لا قوم يطلبون أثره؟».

وكحال كثيرين في الرواية، اختلفت رؤية سعيد للزيني بركات؛ فهو في البداية يعلّق عليه الآمال، ويجد فيه بطلاً مخلّصاً، ورجلاً من زمن المروءة، لكن بعد حين تتغيّر النظرة، خصوصاً بعد أن اختبره بنفسه، إذ صعد إليه بمظلمة، شكا إليه أحد التجار المحتكرين، استمهله الزيني ولكن لم يصنع شيئاً، وبقيت حال البلاد كما كانت عليه من قبل، علاوة على بزوغ البصاصين واشتداد شوكتهم. يحمل سعيد هموماً وعلامات استفهام جديدة، ويفزع إلى شيخه، مصرّحاً بالخوف الذي يستولي عليه: «تصوّر يا مولاي، إنني أخاف (...) أرتجف لو سمعت باسم زكريا، تصور يا مولانا.. أنا الذي يعذبني مرأى الذباب على عيون العيال في بلدنا، أتمنى.. أحمد الله.. تصور يا مولانا.. أحمده، لأنه لم يخلقني فلاحاً أعاني سوة العيش وظلم الكشاف، مولاي اعذرني لأنني وضعت أثقالي كلها عندك.. لكن ما حيلتي والزمان يلجمني ويكسر فكي ويخرس البوح في صدري». جعل الغيطاني «سعيد الجهيني» لا يدّعي البطولة المطلقة، ولا الثورية الجانحة، بل يطنب الشاب في الاعتراف بضعفه الإنساني، وكأنه يحاول جبر ذاته، وسدّ ذلك الجزء من فراغ روحه، بنصائح سيده أبي السعود. ولعل أبرز جوانب ضعف سعيد هو تعلّقه بفتاة (سماح ابنة أحد مشايخه) التي تتملك روح الثائر الرومانسي، فيفيض القلب بالحب وصاحبه نائم، يتمتم باسم المحبوبة، فيسمعه مجاورون بالأزهر، وتصل التقارير إلى البصاصين، ويقررون حرمان سعيد من محبوبته، وبالفعل تتزوج الفتاة من ابن أحد الأثرياء، ويبقى سعيد مجروحاً على أكثر من صعيد، وينال نصيبه من الظلم؛ إذ يشي به أحد البصاصين، ويدخل السجن، ويلقى فيه ألواناً من التعذيب. ويخرج شبه محطم، يرقب الأحوال في مصر، كسواه من الناس. وعلى النقيض تماماً من شخصية سعيد، يوجد في الرواية مجاور أزهري آخر، شغل حيزاً من «الزيني بركات» وأحداثها، ويدعى عمرو بن العدوي، ذلك الشاب الفقير، الذي أمسى بصاصاً، يكتب تقارير عن زملائه، وما يحدث حوله في الجامع الأزهر. تغوص الرواية في أعماق هذه الشخصية، تبرّر أسباب سقوطها، والوقوع في ما يبدو أنه لا مفرّ منه؛ شبكة البصاصين، والانصياع لأوامر من لديهم دقائق حياة الناس، حتى قبل مولدهم.

خيال خلاق

أحكم الغيطاني بناء شخصية الزيني بركات بن موسى، مستعيناً في الأساس ببعض المرويات التاريخية عنها، خصوصاً حوليات ابن إياس. كما لجأ إلى خياله الخلّاق لتكوين عالم شبه متكامل للشخصية، وأحاطها بهالات من قبل بزوغها على مسرح الأحداث، زكّى تلك الهالات تساؤلات الناس عن الزيني، وترقّبهم له في فترة تضطرب فيها البلاد، وتقف على حافة عهدين: وداع المماليك، واستقبال العثمانيين.

وتوجد شهادات تصوّر انقسام النظرة حول الزيني بركات، وكونه شخصية جدلية: محبوبة من البعض، ومكروهة من آخرين، إذ يظهر في فترة اضطراب عانى فيها المصريون، لاسيما أهالي القاهرة، من المحتسب المتسلط علي بن أبي الجود، الذي أرهق الناس بضرائبه وعسفه. وأثرى المؤلف شخصية الزيني؛ فهي في بداياتها تتصف بالزهد، وتحاول أن تترفّع عن قبول المنصب المهم، بينما نهاياتها تشي بإنسان متسلّط، شَرِه للسلطة، يكيد للجميع من أجل الاحتفاظ بمنصبه، حتى ولو تسبّب في هزيمة بلاده، إذ صوّر ختام الرواية الزيني بركات حليفاً للعثمانيين؛ ولذا تولى منصبه في ظل الدولة الجديدة، فهو رجل يصلح لكل العصور، ويعرف كيف يتواءم مع مختلف السلاطين. تركز الرواية أيضاً على شخصية كبير البصاصين، زكريا بن راضي، الذي يعادل الزيني، ويسعى للكيد له في البداية، وبعد حين يتآلف معه، ويدخلان في حلف المصالح المشتركة. وإذا كانت شخصية الزيني مختلفاً عليها، فشخصية زكريا متآلفة مع منصبها وأهدافه، فالرجل يعمل، غالباً، في الخفاء، يجنّد البصاصين في كل مكان، لتكون له عين على كل فرد في مصر.

يلخص «البصاص الأعظم»، كما تصفه الرواية، دولة المماليك القائمة على بثّ الرعب في نفوس الرعية، إذ يستشعر كل إنسان بمراقبة الآخر له، ولذا يمسك لسانه، ولا يجد من يحاوره.

تصور الرواية شخصية زكريا بن راضي متلذذاً بتعذيب الآخرين، ورغم منصبه الكبير، إلا أنه يزاول مهام عمله بيديه، وكأنه يجد متعة في ذلك، حتى إن مكان التعذيب تحت مقر سكنه. تأخذ شخصية زكريا بن راضي مساحة من الرواية، ربما تعادل نصيب الزيني، وتطغى عليه، فالأول تترك له فرصة الحديث في أحايين كثيرة، وعرض التقارير ومناقشتها، وتلخيص ما وصلت إليه أحوال البلاد، وكذلك الحديث عن عوالم البصاصين وخفاياها، وفي وسط ذلك قد تتسرّب في ثنايا الحديث تداعيات ذاتية، تنبئ عن جوانب ضعف، في محاولة لعرض الشخصية من جميع جوانبها.

شخصيات مركبة

الرواية حافلة بالشخصيات الجدلية المركبة، التي يمضي معها الكاتب جمال الغيطاني بعيداً، يرتحل إلى أعماقها، يشتغل على عوالمها الداخلية أكثر، يجعلها في حالة بوح، وكأنه يتدارك ما تركه التاريخ، ويصرّح بما لم يذكره كتبته عن تلك الشخصيات. واكتفى الغيطاني بجزء من هرم السلطة، ولم يذهب إلى قمته، على عكس بعض الروائيين، إذ غابت قصور الحكام، وبيوتات الأمراء، إلى حد كبير، في «الزيني بركات» التي أبرزت شخصيتين فقط تمثلان السلطة، وتغنيان عمن سواهما، وهما الزيني بركات، وزكريا بن راضي. كذلك توارت المرأة في «الزيني بركات»، وبدت بعيدة عن أدوار البطولة، وحين حضرت، كان ذلك عبر وساطة الرجل، ورؤيته، فلم تشترك الأنثى في حدث محوري، ولم يخرج لها صوت منفرد، يظهر خصوصيتها، وكأن القهر منع الرجل من تحقيق كيانه في ذلك العصر الممتلئ بالبصاصين، وغيّب المرأة كلياً.

مساحة خاصة

منذ روايته الاستثنائية «الزيني بركات»، حجز الغيطاني لنفسه مساحة خاصة في كتاب الأدب العربي، فالرواية التي ظهرت في مطلع سبعينات القرن الماضي، شغلت الناس، نقاداً وقراء، وتناوب - ومازال يتناوب - عليها الباحثون، محاولين إعادة قراءتها، وتصنيفها، وفك رموزها: هل هي رواية واقعية أم تاريخية؟ وهل الزيني بركات يرمز إلى «فلان أم علان»؟ وأسئلة كثيرة يثيرها النقاد انطلاقاً من عوالم «الزيني بركات».

و شكّلت القاهرة الفاطمية وما حواليها المكان المحوري الذي تنطلق منه وتدور فيه أحداث «الزيني بركات»، ليبرز بشكل خاص الأزهر وأحياؤه، والجمالية، وغيرها من الأمكنة التي هام بين دروبها الكاتب، وحرص على إبراز تفاصيلها؛ فثمة عشق خاص بين الغيطاني وتلك الفضاءات التي كان يعرفها مثل كفّ يده، ويعد أحد الخبراء بكل بيت وحارة في هذه المناطق التي نشأ فيها بعد أن ترك قريته الجنوبية بصعيد مصر، واستقر مع عائلته قريباً من المشهد الحسيني والأزهر.

تويتر