شهادة على الذات والأحداث.. ومسيرة 70 عاماً مع النفط

علي النعيمي..من البدوي الحافي إلى قمة «أرامكو» و«أوبك»

صورة

«أكتب سيرتي غير طامع بمجد ولا ساعٍ إلى شهرة».. بهذه الجملة يستهل صاحب مسيرة طويلة مع البداوة والمثابرة والنفط وأسواق العالم، الحكاية، من زمن الشحّ، والصبي الحافي الذي لم يعرف الحذاء حتى بلغ التاسعة من العمر، وعمله ساعياً في «أرامكو»، وحتى صار مديراً لتلك الشركة، ووزيراً مسؤولاً يغيّر تصريحاً على لسانه أحوال أسواق النفط العالمية، صعوداً وهبوطاً.

ببوح ظاهر منذ الصفحات الأولى، يروي السعودي علي بن إبراهيم النعيمي، سيرته في كتاب: «من البادية إلى عالم النفط»، منطلقاً من تاريخ الميلاد في عام 1935، والأب المنتمي لقبيلة النعيمي، والأم التي تعود إلى قبيلة العجبان، والحديث عن العمل الأول في رعي الغنم، والطفل (علي) في الرابعة من العمر، حيث لا محل لراحة في صحراء قاسية، قليلة الموارد، معزولة عن المدنية والحضارة في شرق المملكة العربية السعودية، ولذا رحل الصبي مع العشيرة طلباً للكلأ والماء «لمسافات طويلة امتدت من الكويت شمالاً، وصولاً إلى واحة النخيل المترامية الأطراف عند بلدة الهفوف القديمة، على بعد 500 كيلومتر في الجنوب الشرقي».


مع انهيار تجارة اللؤلؤ في الخليج العربي، تحول والد علي، وكذلك معظم صيادي اللؤلؤ، إلى عاطلين عن العمل، واتجه البعض إلى شركات التنقيب عن البترول عمالاً باليومية، يقيمون في مساكن متواضعة مسقوفة بجريد النخيل.

الإهداء.. إلى «ظبية»

«أهدي هذا الكتاب إلى زوجتي ظبية.. التي لولا حبها ودعمها لما أبصر هذا العمل النور. كما أهديه إلى أولادي الرائعين ريم ورامي وندى ومحمد وأولادهم الذين يمنحونني الأمل».

مبكراً، التحق الطفل علي النعيمي بمدرسة أسستها شركة أرامكو، أسوة بأخ له يسمى عبدالله، وكانا يقضيان أربع ساعات في المدرسة صباحاً، ويعملان لدى الشركة أربع ساعات بعد الظهيرة، وكانا يقطعان يومياً 15 كيلومتراً، هي المسافة بين المدرسة والبيت سيراً على الأقدام.

ويروي علي النعيمي ذكرياته عن تلك الأيام: «مع أني اتخذت نعالاً في المدرسة كبقية الطلاب، لكنني ظللت كأبناء البادية أسير حافياً حاملاً نعالي على كتفي حفاظاً عليها من التلف. كنا جميعاً طلاباً فقراء، ومع ذلك خيل إلي بأني أفقرهم حالاً، وأبلاهم أسمالاً، وأشعثهم شعراً، وأرثهم هيئة، وربما أقصرهم قامة أيضاً».

في تلك المدرسة البسيطة الصغيرة، كبرت أحلام الفتى، طاولت الجبل (كان اسم تلك المدرسة)، فبذل جهداً مضاعفاً وأدى واجباته أفضل من زملائه جميعاً، وحين سأل أحد المعلمين التلاميذ عن أمنياتهم وما يودون أن يكونوا عليه حينما يكبرون، جاءت الإجابات «نمطية من أمثال رجل إطفاء، أو أستاذ، أو مشرف على الحفر»، بينما كان لعلي النعيمي أمنية مغايرة فاجأت الكل: «أريد أن أصبح رئيس شركة أرامكو!».

293

صفحة يضمها كتاب «من البادية إلى النفط» لعلي بن إبراهيم النعيمي، الذي صدر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون».

120

درهماً سعر كتاب «من البادية إلى النفط».

- بمساحة بوح كبيرة تتوالى الذكريات في السيرة، ساردة تفاصيل كثيرة بخفة ظل لا تغيب.

- «أظل أولاً وأخيراً مواطناً ينتمي إلى المستقبل ويحمل نظرة تفاؤلية، فمن يدري ماذا يحمل لنا الغد؟».

وكما عرف الصبي معنى الاجتهاد والتيقظ والحفاظ على ما تيسر من موارد شحيحة، عرف كذلك معنى الفقد مبكراً، إذ مرض أخوه عبدالله وهو في الـ17 من عمره، وقضى الالتهاب الرئوي عليه، في زمن لم تتوافر فيه المضادات الحيوية. ودعا شخص من الشركة الابن الأصغر إلى العمل محل أخيه الراحل، نظير ثلاثة ريالات في اليوم (90 في الشهر كاملاً)، كانت تذهب للأب الذي تقدم به العمر ولم يعد قادراً على إعالة الأسرة.

لم تستمر وظيفة علي النعيمي طويلاً، إذ طرد بعد تسعة أشهر، بعدما أصدرت الحكومة السعودية لوائح جديدة تحظر توظيف من هم دون سن الـ18، وكان الصبي حينها في الـ12، ما اضطره إلى البحث عن عمل آخر؛ سرّح منه بعد قليل أيضاً، ويقول عن تلك المرحلة: «لو كان الفشل جزءاً من المنهج الدراسي لحصلت على امتياز، فقد طردت من أربع وظائف في غضون أربعة أشهر. ولكني في الوقت نفسه تعرفت على ذاتي عن قرب، فأدركت أني كنت فطناً سريع التكيف، وأني كلما اعتمدت على نفسي زاد احترام الناس لي، فأيقنت أن طول القامة وكبر السن ليسا كل شيء، أو هكذا رجوت!».

وحاول علي النعيمي التحايل على موضوع العمر، لكي يحظى بوظيفة في «أرامكو»، وتعاطف معه طبيب رأى «دموع القهر وخيبة الأمل»، فمنحه شهادة تفيد بأنه في الـ17 من العمر، والتحق علي مجدداً بالشركة، مدرسةً ووظيفةً، وبرع في النسخ على الآلة الكاتبة، وأتقن «الإنجليزية»، ورشح «ضمن أول دفعة من الموظفين السعوديين للسفر إلى لونغ أيلند في نيويورك لتعليم اللغة العربية لموظفي أرامكو قبل مجيئهم إلى السعودية». واضطرت أسرة علي إلى اصطحابه إلى البحرين، وجهزت له ثلاث بدلات بيضاء اللون «شبيهة بتلك التي يرتديها رئيس الوزراء نهرو». لكن لم يكتمل حلم السفر، إذ رأى أحد المسؤولين أن الفتى «صغير جداً على العمل في الولايات المتحدة.. ثم رسم خطاً على الجدار وأردف بقوله: عندما تصبح بهذا الطول، سنرسلك.. وحتى يومنا هذا لم يبلغ طولي ذلك الخط! فشعرت بخيبة الأمل طبعاً، وليست لدي بعدها أدنى فكرة عما حل ببدل نهرو».

بمساحة البوح الكبيرة هذه تتوالى الذكريات في سيرة علي النعيمي، ساردة تفاصيل كثيرة ومواقف حياتية خاصة بخفة ظل لا تغيب، غير هيّابة من الحديث عن البيئة الأولى الشحيحة، ولا الأم البدوية التي فارقها الأب واقترن بأخرى، وكذلك الإشادة بدور المرأة وقيمتها منذ إهداء الكتاب، والتصريح باسم شريكة الدرب، وصاحبة الفضل في إنجاز السيرة: «أهدي هذا الكتاب إلى زوجتي ظبية، التي لولا حبها ودعمها لما أبصر هذا العمل النور». ولتلك السيدة (ظبية) حضور بارز في حياة الرجل وكتابه، إذ يروي كيف تقدم وهو شاب إلى أسرتها، ويصف إطلالتها الأولى بشاعرية: «فتاة فاتنة الجمال، بهية الطلة، زادها حسناً شعر مموج شديد السواد، لا تتجاوز السادسة عشرة أو السابعة عشرة».

شهادات ومناصب

بالعودة إلى مسيرة علي النعيمي، يفصّل الكتاب مراحل صاحبه في مجال الدراسة، إذ ألحقته «أرامكو» بجامعة ليهاي في بنسلفينيا لدراسة الجيولوجيا، وحصل على الماجستير (في عام واحد كما اشترطت عليه الشركة) من جامعة استانفورد بكاليفورنيا. بعد تلك الشهادات العلمية التي حصّلها؛ عاد علي النعيمي في نوفمبر عام 1963 إلى السعودية، وتحديداً إلى حي أرامكو السكني بالظهران، الذي كان حكراً على كبار موظفي الشركة من الأجانب، حيث تم تعيينه «جيولوجياً في قسم التنقيب والإنتاج».

وعرضت عليه بعدها وظيفة حكومية بضعف راتبه، إلا أنه لم يستمر في تلك الوظيفة سوى يومين، إذ فوجئ بنمط مختلف، فحينما ذهب في السابعة صباحاً إلى مكتبه بالوزارة فوجئ بأن الأبواب موصدة، ويقول: «توهمت بانضمامي إلى القطاع الحكومي أنني سأقوم بخدمة الناس، وأساهم في تطوير البلاد ونهضتها، إلا أني لم أجد وقتاً حتى للتفكير بذلك، فما كدت أضع حقيبتي على المكتب حتى تقافز أمامي المقاولون وأصحاب الأراضي، يريدون انتزاع توقيعي للموافقة على حفر آبار مياه دون تقديم تفاصيل هندسية، أو أي معلومات تتعلق ببرنامج الحفر، إذ يبدو لي أنهم لم يواجهوا صعوبة في ذلك مع سلفي».

عاد النعيمي إلى «بيته» أرامكو من جديد، وتدرج في سلم ترقيات ومناصب داخل الشركة، وأصبح أول رئيس تنفيذي سعودي لها في عام 1984، وعينته المملكة وزريراً عام 1995، ليكون شاهداً على العديد من أحداث المنطقة والعالم، وصانعاً لجانب من السياسات النفطية، بكل ما تمثله السعودية من وزن وثقل في هذا الجانب.

يحفل الكتاب بالتفاصيل الخاصة والعامة، يسرد محطات حياة النعيمي وكذلك مسيرة شركة أرامكو التي يعد الرجل شاهداً عليها، كما يروي ما يدور في «الكواليس» حول النفط ومنظمة «أوبك»، كيف يتعامل الأعضاء، وما بال من يلتزم بالقرارات ومن يتحايل عليها، وغيرها الكثير من الحكايات التي تعبأ بها الصفحات التي تقترب من الـ300.

وبهذه الكلمات يختتم النعيمي رحلته: «لست نادماً على شيء ولله الحمد، بل أنا على استعداد لإعادة الكرّة من جديد، فقد عشت حياة شخصية ومهنية رائعة بكل المقاييس. وعلى الرغم من بلوغي ثمانين حولاً، انقضت سبعة عقود منها في العمل بقطاع النفط، أظل أولاً وأخيراً مواطناً ينتمي إلى المستقبل ويحمل نظرة تفاؤلية، فمن يدري ماذا يحمل لنا الغد؟».

تويتر