نافست على «جائزة الشيخ زايد» في «الآداب»
«ألواح» رشيد الضعيف.. كتابة على هواها
كتابة على هواها، لا تتقيّد بحدود اللون أو النوع، صالحة لكل الأوصاف، لن يخطّأ قارئ ما يراها سيرة، أو آخر يعتبرها رواية، أو ثالث ينعت نصوصها بما شاء من المسميات.. تلك هي حال «ألواح» المبدع اللبناني، رشيد الضعيف، التي نافست على جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الآداب. الاختلاف على التصنيف لن يكون اختلافاً على المحتوى، فثمة تجوال بين دروب الذات والبوح الصريح بما يذل النفس منذ الصفحات الأولى التي تسعى إلى تقديم شهادة عن الراوي الذي يؤكد: «لا أحد يعرفني على حقيقتي»، ولذا تأتي لحظة المكاشفة على الورق، الخلاص والعلاج والاعتراف بكل ما يخجل، ربما من وجهة نظر البعض.
«ألواح» كتابة ضد الادعاء، لا تضخّم النفس ولا تحيطها بهالات من أي نوع، تضرب في الأعماق بعيداً عن قشور تغري وتشغل كثيرين، فالراوي يبحث عن بلاغة مختلفة، ويأنف من المجاز الذي قد يوحي بأسرار، أو يكون قناعاً يضفي زيفاً ما على المبدع.
يهيمن ضمير المتكلم على «ألواح» رشيد الضعيف، ولا يختلف اسم الراوي عن اسم الكاتب، ولا حتى تاريخ ميلاده (6 أغسطس 1945)، والكثير من فصول حياته ومحطاتها، لتمتزج السيرتان معاً، وتصيرا نصاً واحداً يستفيد من حياتين، واحدة حقيقية، وأخرى متخيلة، يضع عينه على شخصيات من لحم ودم، وأخرى غير ذلك، ليس لها وجود سوى على الورق، وينسج ذلك كله في فضاء واحد يستولي على القارئ، ويجعله في حيرة من أمره: أي سيرة تلك، رشيد الضعيف الحقيقي أم المتخيل؟ وقلب من هذا المفتوح لأقصى مدى بين الصفحات؟
قائمة قصيرة وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الآداب، ثلاثة أعمال، هي: «ألواح» رشيد الضعيف، ورواية «في فمي لؤلؤة» للكاتبة الإماراتية الشيخة ميسون صقر القاسمي، و«خريف البراءة» للكاتب اللبناني عباس بيضون، والتي فازت بالجائزة كما أعلن أخيراً. أعمال من أعمال الكاتب اللبناني، رشيد الضعيف، التي ترجم العديد منها إلى لغات عدة، وحازت كذلك عدداً من الجوائز: «أوكي مع السلامة»، و«إنسي السيارة»، و«تصطفل ميريل ستريب»، و«عودة الألماني إلى رشده»، و«ليرننغ إنغلش»، و«ناحية البراءة»، و«هرة سيكيريدا». 159 صفحة يقع فيها كتاب رشيد الضعيف، الصادر عن دار الساقي اللبنانية. |
صاحبا الحضور
يشغل الوالدان مساحة كبيرة من «ألواح»، فهما حاضران بقوة، وهما أثرى شخصيات الكتاب، ويمكن اعتبارهما مع الراوي مثلث الحكاية الرئيس، فالأب، الذي مات في الـ59 من العمر سعيداً جداً، حظي بصحة جيدة وثمانية أولاد، وتحضر قصصه وتفاصيل حياته في الكتاب، يبوح بها الراوي (رشيد الذي لم يعرف اسم الدلال سوى من أمه التي كانت تناديه رشو)، ويرسم صورة لذلك الأب من الخارج ومن الداخل، يتحدث عن مهنته التي تحمل تناقضاً ما، إذ كان حلاقاً لا يداوم على فتح محله، وكأن المهنة لغيره لا لسواه، ويراه الابن «خلق ليكون مزارعاً».
وكما لم يكن الأب مخلصاً لمهنته، لم يوفق في هوايته، وهي النفخ في الناي، إذ «لم يكن مبدعاً فيه، لم يكن يوصل رقة إحساس، كان ينفخ فيه فقط ويصدر صوتاً يذكر بصوت الناي ليس إلا، وكان يجرؤ على النفخ أينما كان، لا يهمه حكم مستمع ولا اشمئزاز ذواقة، وكان من وقت لآخر يكسب مالاً من اشتراكه في بعض مناسبات، فيفرح لذلك كثيراً. كان يفرح بالقرش الواحد الذي يكسبه من هذا العمل كما لو أنه نال الجائزة الأولى في اللوتو. كان حلمه أن يعتاش من الناي، لكنه لم يكن موهوباً ولم يكسب به إلا نادراً، لأن الناس لم تكن تدعوه إلا إذا تعذر عليهم إيجاد نافخ آخر».
ورث الابن عن والده - كما يروي - حب تلك الآلة، وأبدع فيها، وحين أراد الأب أن يشكل مع صبيه ثنائياً لم يتحقق ذلك الحلم، وفي أمسية ما تألق الابن وحظي بإعجاب حضور المناسبة، وكذلك بهباتهم من الأوراق المالية الكبيرة، وفوجئ الأب في نهاية العرس بأن الابن الصغير يجمع المال الذي منحه إياه المدعوون ويقدمه هدية للعروسين، ليدع الأب في حسرة كبرى، معلناً أنه لن يعيش من النفخ في الناي، بل سيبحث لذاته عن مجال آخر، وهو التفوق الدراسي. تلك الحادثة أثرت في نفس الأب، وكانت سبباً مباشراً لدفعه إلى أن يكسر ما يمتلكه من نايات، سوى واحد خبأته الأم.
حكايات الوالدة
على الطرف الآخر، تحضر الوالدة وحكاياتها، قوتها وجمالها، حتى حين مات عندها زوجها وهي في الـ46 من العمر، وقلبها المنفطر حينما تعرّض ابنها الأكبر لحادث (إطلاق نار) تم على إثره بتر رجله. الوالدة التي كانت لا تقرأ «حتى عقارب الساعة»، كانت تستحي حينما يُطلب منها غمس إبهامها في المحبرة كي تبصم على ورقة ما، متمنية أن يعلمها أحد من أولادها الثمانية التوقيع، لكنها كانت تنسى أمام المسؤوليات الكبيرة، وينسى كذلك الأبناء، وكانت «قانعة ولا تشكو من شيء، لا من فقر ولا من حاجة ولا من مرض».
رغبة تعلم كتابة الاسم والتوقيع بدلاً من البصم، ظلت في نفس الراوي، ولذا يقول محاسباً ذاته بعد أن رحلت الأم: «كنت أتصور نفسي أمضي معها وقتاً لأعلمها كيف تمسك بالقلم وترسم اسمها فأضطرب، وأغضب، ثم أتمكن من اضطرابي وغضبي بالنسيان، أتصور أنني أعلمها رسم أحرف اسمها: رسم الياء ثم الألف (الألف أسهل الحروف) ثم السين والميم (الميم صعبة) والياء (الياء أصعب)، والنون يجب ألا تشبه الباء.. فأغضب! فإلى أي درجة تريد والدتي أن ترتقي ولماذا؟ ألا ترتقي بنا؟ ألسنا نحن رقيها؟ ثم إنني أنسى إلى أن يجيء موعد البصمة المقبلة.. ثم ماتت».
خلال الحرب الأهلية في لبنان يصاب الابن بجروح خطيرة، وينقل إلى مستشفى، ولا يجد أحداً سوى أمه، فالكاتب الذي كان يظن أن الحياة ستنقلب رأساً على عقب، وستخرج تظاهرات عارمة، لو أصابه مكروه، يفاجأ بأنه لا أحد يشعر حتى بما حدث معه، والوحيدة التي كانت بجواره هي أمه التي لا تعرف شيئاً عن المدينة الكبيرة (بيروت) ولا كيف تضغط على زرّ المصعد، ولا «تحفظ حتى اسم الحي» الذي يسكن فيه ابنها، وكانت تمضي الوقت كله بجوار ابنها المصاب، وحينما أمرها أن تذهب إلى شقته لكي تستريح حيناً وتستحم، تاهت في طريق العودة إليه، إذ لم تكن تعرف اسم المستشفى، وركبت ثلاثة تاكسيات حتى عرف أحد السائقين ما قصدته وأوصلها إلى حيث يرقد ابنها المصاب.
الكتابة والعلاج
ثمة حضور طاغٍ لشخصية أخرى، وهي الفرنسية ناتالي، استراحة الروح التي تكتمل قصتها للنهاية، وبترت بشكل درامي. ومن الشخصيات الحاضرة كذلك الجد، والعم المغترب الذي مات بعيداً، وأصرت أسرة رشيد على عودته لحاجة في نفسها، وتحفل الحكاية بالتفاصيل والمفارقات والكثير من الدواخل العائلية التي يصرح بها الراوي، ولا يسترها عن القارئ، كما شأنه في كل محطات «ألواح» الصادرة عن دار الساقي في 159 صفحة، تحت عناوين متباينة، بعضها لا يكاد يشغل الصفحة، بينما تمتد أخرى إلى صفحات عدة، حينما يتطلب خيط السرد ذلك.
يختتم المبدع رشيد الضعيف كتابه بنص بعنوان «الكتابة والعلاج»: «قد تكون الكتابة نوعاً من العلاج للأزمات النفسية التي يعانيها الكاتب، على ما يقول كثير من الكتّاب أنفسهم ومن المختصين ومن الناس عامة. وقد تكون الكتابة شهادة، وقد تكون صرخة، وقد تكون وقفة عز، وقد تكون فعل إذلال للنفس أو فعلاً مجانياً أو تمريناً على شيء ما، وقد تكون عملاً مأجوراً أو رغبة في الخلود. وقد تكون لقهر الأعداء. وقد يكون الأعداء المنافسين، أو المرأة المحبوبة ذاتها. لا حصر للأسباب الباعثة على الكتابة. لا حصر لها عند كاتب واحد فكيف بحصرها عند الكتّاب مجتمعين؟ أما أنا فإنني أكتب الآن بدوافع غامضة. أعرف فقط ما الذي حرضني الآن، لكنني أؤجل الكلام عليه. أقول فقط بهذا الخصوص: لن تغلبني طعنة في الظهر ولا جنون مفاجئ، ولا خبث مجرم ولا نكبة ولا نكسة ولا ربيع دموي ولا نظام ديكتاتوري، ولا عداوة كاتب ولا كتابة عدو، ولن تغلبني حداثة ما بعد الحداثة، ومع ذلك فإن وجهي الآن مطفأ وعيناي بلا نور. عيناي مطفأتان كوجهي. ووجهي وجه كلب كبر بالعمر وتدلى لحمه. وأما الفرق بيني وبين والدي فهو أنه مات سعيداً».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news