كتاب يقدم نشأته ويحتفي بسيرته الفنية
حامد عبدالله .. تجربة إحياء الفنون القديـــمة
«مبدئي كفنان شرقي، هو أن أرسم الطبيعة كما أراها بفكري، لا كما أراها بعيني»، هذه الكلمات التي كان يختصر بها الفنان حامد عبدالله رؤيته للفن، كانت الجملة التي تصدرت الكتاب الذي حمل اسم «الرسام عبدالله»، والذي قدمته رلى الزين. يقدم الكتاب أعمال الفنان المصري الذي توفي عام 1985، والذي أسس مدرسة فنية خاصة في مصر تقوم على إعادة إحياء الفنون القديمة، لاسيما التي تناوب الفلاحون في مصر على تناقلها عبر الأجيال.
الشرق اعتنى حامد عبدالله بدراسة الشرق في أسفاره الكثيرة التي قام بها لاسيما في صقلية، حيث واجهه الكثير من كنوز الفن العربي، منها هندسة عمارة القصور، ومساجد الفاتحين العرب. درس الفسيفساء في العمارة الإسلامية، كما درس الذي نشأ في أسرة فلاحة الفخار الإسلامي، وبحث في أماكن العبادة الإسلامية، ودراساته المعمقة للأشكال التي تزينها. هذا التأثر بالفن الإسلامي جعل حامد يبتعد عن الأشخاص ويميل إلى الخطوط التجريدية أكثر، ما فتح له النافذة على عالم جديد ورؤية فنية خاصة ومختلفة. الفلكلور لجأ حامد عبدالله في مرحلة من حياته إلى الفن المنصرف نحو اللهو، فبدت لوحاته كأنها تعالج مسألة الفلكلور والمظهر الساذج بالأشكال التي كان ينتجها. كانت لوحاته تحمل الوجوه المشوهة، والعيون المكبرة بمبالغة كبيرة، إلى جانب الأنف المضخم، والفم المنتفخ والوجنة المرتفعة. اعتمد عبدالله في أعماله على التشويه الجميل، الذي يأخذ حيز العبث مع الواقع، واللعب معه، كأنه يزيح الأقنعة الجامدة للبرجوازية. |
يبدأ الكتاب، الذي يقدم بثلاث لغات، هي العربية والفرنسية والانجليزية، بنبذة عن حياة عبدالله، وبدايته الفنية، فيبين كيف أن أعمال الفنان تأخذ الواقع لتنشئ من خلاله بناء تشكيلياً مطواعاً لموضوعاته، لكنه بعيد عنه. يبرز الكتاب ما ترك عبدالله وعلى مدى ما يزيد على 50 عاماً، من مجموعة الأعمال التي اندرجت تحت عنوان الأعمال التي قدمها على الحجر، وهي الأعمال الليتوغرافية، التي تجسد بحثه الدائم عن جديد يقدمه. يبدأ الكتاب بعرض مجموعة من أعماله في عام 1933، والتي تبرز توجهه إلى الألوان اللينة، واعتماده على الظلال في اللوحات، ثم توجه في عام 1945، إلى اللوحات التركيبية، التي أسقط فيها الرموز الفلكلورية، وسط تكوينات عريضة، حتى رست تجربته عند الحروف العريضة التكوين في عام 1957، حيث اعتمد تجريد اللغة، فكانت لوحاته خالية من القواعد الخطية والقيود الكلاسيكية.
تأثرت تجربة عبدالله بأسفاره، فقد استقر في كوبنهاغن، ثم انتقل إلى باريس، وأمضى في باريس عقدين من الزمن، الأمر الذي جعل تجربته الفنية تبقى بعيدة عن العالم العربي، إلى أن أتى بها كريم فرنسيس إلى المتحف الذي يقدم أعماله في مصر، وذلك بعد وفاته في عام 1985.
بالعودة إلى الثيمة التي ميزت أعماله، تعرض رلى الزين تجربة حامد عبدالله، كفنان تتحدث أعماله عن التمرد والمقاومة، والظلم والأمل، وعن الفلاحين والبسطاء، وكذلك المساواة بين الرجل والمرأة، وفناء الروح، مستعيناً بالإرث الفرعوني والقبطي والاسلامي. لم تكن حياة عبدالله مترفة، فقد نشأ في أسرة فلاحة، أما ألوانه، فقد أتت متناسبة مع طبيعته المصرية، وكذلك البيئة التي نشأ فيها، وهكذا كان عبدالله يحب التعبير عن لوحاته التي يرى أنها شديدة الالتصاق بذاته وبيئته، بخلاف ما يعتقد الغربيون الذين يظنون أن الشرقي يستدعي الألوان الحارة كالأصفر والبرتقالي وغيرهما. هذه الرؤية الفنية جعلت أعماله بعيدة عن البهرجة، ونافرة من الصبغة التجارية للصالات الفنية، وقد أتت الأعمال التي رصد فيها مشاهد من المقاهي خير شاهد على التصاق الفنان بالبساطة، والابتعاد عن التعقيد وصدقه في نقل اللون على اللوحة. حاكت هذه اللوحات البيئة المصرية، لاسيما الطبيعة ومشاهد الحياة اليومية.
هذه المشاهد التي شغلت لوحته لمرحلة ليست بقصيرة، تبدأ بالتلاشي من اللوحة لتتحول في مرحلة لاحقة إلى خطوط سوداء قوية، تتداخل مع الألوان الساطعة، حيث يركز الفنان على العلاقة بين الفضاء والشكل، متخذاً منحى الأشكال النحتية، ولكن مع الحرص على عدم الاقتراب من التيار التكعيبي.
شكلت باريس محطة مهمة في حياة عبدالله، وكانت بمثابة الانتقال إلى الفن العالمي، حيث كانت قبل ذاك أعماله مقدمة للجمهور المصري فقط، بينما أصبحت تتوجه إلى الجمهور الفرنسي في عام 1950. وتعتبر هذه المحطة مهمة، ليس فقط بالنسبة للفنان الذي بدأ يقدم أعماله للغرب، وإنما أيضاً من خلال الصورة التي قدمها عن الفن المصري، من خلال أعماله، والتي كانت تختلف كثيراً عن الفن الذي قدم من قبل الفنانين الأجانب الذين زاروا العالم العربي. كانت أعماله في تلك الفترة تقوم على النور المبهر في الأبيض، والذي يضعف كثافة اللون وحدتها، إلى جانب الابتعاد عن تضاد اللون، تماماً كما في لوحة «سوق الهال في باريس». وظلت المشاهد الحياتية مرافقة للوحاته في هذه الفترة، فكان يجسد الأشخاص بأسلوبه الخاص، يبتعد عن تجريدهم، ويميل إلى تقطيعهم عبر خطوط لونية متقاطعة ومتداخلة. هذه الإقامة في باريس جعلته يأخذ من المدرسين الفرنسيين، ويضيف إلى تجربته ويمزجها مع الإرث المصري، فشكلت ما يشبه استعادة واكتشاف موروثه الذاتي.
اللافت في أعمال حامد أنها مصبوغة بالحزن، فهي شديدة الانتماء إلى الطابع الإنساني العميق، فيبدو كما لو أنه في حالة بحث عن الإنسان في المدن الكبيرة. لوحاته تدلل على شعوره بالوحدة، والبؤس، لاسيما التي قدمها بعد عودته إلى مصر عام 1951، إذ استمر في تفريغ الأشكال، حيث قدم من خلالها الطبقة الاجتماعية المعدمة، لكن الواعية، ومنها لوحة «زلطة»، التي تحمل تعبيرية موجزة.
سيطر عبدالله على مواده، لذا كان دائم البحث عن وسائط جديدة، فقدم بعض الأعمال على الزجاج، ومنها الأعمال التي حملت عنوان «مرآة»، والتي قدمها في كوبنهاغن، حيث رسم على الألواح الزجاجية، ثم لجأ إلى الورق الياباني الذي يوضع على سطح الصورة. أما القاعدة الأساسية التي استخدمها في بعض الأعمال، فكانت القطران الذي استخدمه مغلفاً بورق الفضة والذهب. هذه المواد كانت تخدم الأسلوب التجريدي الهندسي، الذي اتبعه عبدالله في حياته الفنية، لاسيما أنه اتخذ السياق المعماري والهندسي. أما الحروف فقد صممت بأسلوب هادئ وجميل، بعيد عن الاحتشاد، والانفعال، لذا بدت قريبة من الخطوط الإسلامية على جدران المساجد أو المصاحف الكبيرة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news