رحاب نزال تشكيلية توثّق للحياة تحت الاحتلال

زوبعةٌ في معرض.. الإسرائيلي يشتبك مع «اللّامرئي» الفلسطيني

صورة

عندما أقامت الفنّانة الفلسطينيّة الكنديّة رحاب نزّال معرضاً سمته «اللّامرئي»، وافتتحته في الثّامن من مايو الماضي في غاليري «كارش - ماسون» بمقرّ بلديّة العاصمة الكنديّة أوتاوا، كانت تعرف أن معرضها يتحدّى المُسلَّمات المسكوت عنها باستعراضه قصصاً من واقع الحياة الفلسطينيّة تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي. وبالتّالي كان من الطّبيعي أن تتوقّع أن يخلق معرضها جدلاً، كما حصل في معارضها السّابقة بكندا.

رحاب نزال

فنانة فلسطينية كندية، ولدت في قباطية قرب جنين بفلسطين المحتلة، درست الاقتصاد السياسي في جامعة دمشق، سورية، قبل أن تنتقل إلى كندا، حيث حصلت على بكالوريوس الفنون الجميلة من جامعة أوتاوا، قسم الفنون البصرية، ثم تابعت دراستها للفنون الجميلة وحصلت على درجة الماجستير، في برنامج وسائط التوثيق، جامعة ريرسون في تورنتو، وهي حالياً مرشحة لدرجة الدكتوراه في الفنون والثقافة البصرية من جامعة غرب إنتاريو في كندا.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/09/197635.jpg

 


معارض

أقامت رحال نزال خلال السنوات العشر الأخيرة (2004-2013) تسعة معارض شخصية، تجمع بين التصوير الفوتوغرافي وأعمال التجهيز (Video Installation)، وتوزعت هذه المعارض بين جامعات ومراكز الفنون وغاليريات خاصة في كل من تورنتو وأوتاوا، كندا، إضافة إلى عشرات المشاركات في معارض ومهرجانات جماعية للفنون، خلال الأعوام (2002 /2014)، والتى أقيمت في كل من كندا والولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا. كما عرضت رحاب نزال تجربتها الفنية في عشرات المناسبات التي شاركت فيها كمتحدثة، إضافة إلى كتابتها العديد من المقالات. وقد حصلت خلال مسيرتها الفنية الممتدة منذ 2002 على العديد من الجوائز وشهادات التكريم. وهي عضو في العديد من جمعيات الفنون والوسائط الفنية المتعددة ومنظمات حقوق الإنسان العاملة في كندا.

لكن ما لم تتوقّعه هو زيارة السّفير الإسرائيلي في كندا، رفائيل باراك، معرضها واحتجاجه عليه، وقيام اللّوبي الإسرائيلي وثلاثة أعضاء من مجلس العموم الكندي بمهاجمتها والمعرض، ليطالبوا رئيس البلديّة بإغلاقه الفوري.

في غرفة طلتها بالأسود ضمن صالة العرض، عالجت رحاب فيديو مجتزأً انتُزع بعد صراعٍ طويل في المحكمة العليا وعُرض في القناة الإسرائيليّة الثّانية قبل ثلاث سنوات في أبريل ٢٠١١. الفيديو الأصلي يوثّق التّمرين العسكري في سجن النّقب، حيث دخلته الوحدة العسكريّة «مسادا» في ٢٢ أكتوبر ٢٠٠٧، وابتدأت بالتعرض لمساجينه السياسيين، وإطلاق الرّصاص عليهم بهدف «رفع معنويّات حرّاس السّجن». كانت السّاعة الثّانية صباحاً لدى دخول الجنود السّجن، وكان سجناؤه وغالباً يحلمون. وعلى الأغلب، كان أحدهم، محمّد أشقر، يحلم بضمّ عائلته حول مائدة العشاء بعد طول غياب. فيوم تحريره كان قد اقترب، ولم يتبقّ لوجوده في السّجن غير بضعة أيّام. على الأغلب، لم يكن يحلم محمّد أشقر بأن يستبدل ضمّ عائلته بعناق سرير المستشفى الإسرائيلي أو أن تكون الرّصاصة المتغلغلة في دماغه هي آخر ما ستستحدثه عنه عائلته من أخبار. محمّد أشقر ودّع الحياة في سبيل إسعاد حرّاس سجن النّقب ورفع معنويّاتهم.

للقصّة تفاصيل مروّعة أخرى، كالتّنكيل بالسّجناء والاستمتاع بشتم أمّهاتهم، تفاصيل فكفكتها رحاب واستخلصت منها عملين: الأوّل فيديو صوت بلا صورة، فيه يُسمع صوت هجوم الجنود ومطالبتهم الأسرى بالاستسلام والخروج من مهاجعهم على بطونهم، يُقرأ مترجماً في أسفل الصّورة السّوداء. والثّاني هو عبارة عن جدار يتضمّن ١٧٠٠ صورة التُقِطت من الفيديو الأصلي، نصفها مربّعات سوداء، داعيةً المتفرّج إلى استنباط ما يراه مناسباً وملء فراغ المربّعات السّوداء بخياله. ربّما كان هذا الخيال مخلوطاً بالصّدمة والخوف من كشف اللّامرئي، وهو ما أدّى بالبعض من منتقدي المعرض إلى تجاهل فيديو اجتياح سجن النّقب، واللّجوء إلى استهداف جدليّة فيديو آخر في المعرض «هدف».

الفيديو «هدف» هو عبارة عن عرض الفنّانة لتجربتها الشّخصيّة واستيعابها للماضي الفلسطيني في أربع دقائق تعرض عشرات الصّور لوجوه وملصقات كانت قد جمّعتها من شوارع فلسطين عبر السّنين. الصّور توثّق إعلانات نعي لمفكّرين وقادة وناشطين فلسطينيّين كانت قد اغتالتهم إسرائيل داخل فلسطين وخارجها، كغسّان كنفاني وناجي العلي. كلّ صورة من هذه الصّور تظهر في إطارٍ دائري، كما رآها القنّاص من خلال عدسة فوّهة بندقيته. وتظهر لجزءٍ من الثّانية على خلفيّة معتمة ثم تتلاشى بشكلٍ جزئيّ، مرسّخةً أثرها على الشّاشة كصورة شبحيّة واحدة، شبهاً بالأثر المتروك في الذّاكرة الجماعيّة الفلسطينيّة، وتلك الخاصّة بالفنّانة. وهكذا بطبيعة كونها جزءاً من الجماعة الفلسطينيّة، اختارت رحاب أن تعتق ذاكرتها من أسرها، محوّلة إيّاها إلى مصدر قوّة ومانحة إيّاها صوتاً، تعالج به حزنها وغضبها. فاستخدمت في «هدف» واقع الفقدان بصوره لتستوعب ذكرى الحيوات الفلسطينيّة بشكلٍ عام وفاجعة فقدان حياة أخيها خالد نزّال بشكلٍ خاص، الّذي اغتيل سنة ١٩٨٦، تماماً كما اغتيل العشرات من أصحاب الوجوه المعروضة في الفيديو خارج جدران المحاكم. في ٢٢ من مايو الماضي، ومن بين عشرات الوجوه المتلاشية في «هدف»، اجتذبت اهتمام السّفير بضعة وجوه انتمت إلى المقاومة الفلسطينيّة. فاعتبر الأخير المعرض بكلّيّته «هدراً للمال العام» و«تمجيداً للإرهاب»، لم يعلّق على الجريمة الإسرائيليّة في التّعامل مع سجناء النّقب، أو إطلاق النّار عليهم لرفع معنويّات حرّاسهم، ولم يتطرّق إلى تجربة الفنّانة الخاصّة مع الغاز المسيل للدّموع عند اشتراكها في تظاهرة سلميّة وثّقتها في فيديو سمته «بلعين».

بينما قد يكون استياء السّفير طبيعياً كفرد ينتمي إلى دولة الاحتلال الإسرائيليّة أو كفرد يقطن الدّولة الكنديّة، فإنّ استغلال منصبه للتّدخّل في حدثٍ فنّي على المستوى البلدي لم يكن مقبولاً بالنسبة لرئيس البلديّة جيم واطسون، ولا رحاب، ولا المئات من الفنّانين والفنّانات والأكاديميّين والأكاديميّات في كندا. فوقّع العديد منهم على رسالة تضامنيّة مع رحاب، وأعلنت بلديّة أوتاوا على لسان رئيسها أنّ المعرض لن يغلق مبكّراً، لأنه ليس فيه ما يتناقض مع القوانين الكنديّة، ولأنّ في إغلاقه انتهاكاً لحقوق رحاب المصونة في الدّستور الكندي. كما أنّه حتّى إن أُغلق مبكّراً، فإنّ أيّ استئناف في المحكمة العليا سيعيد فتحه بحكم كونه منفذاً لحرّيّة التّعبير عن الرّأي، بما في ذلك التّعبير الفنّي.

وبدلاً من أن يعكّر تدخّل السّفير والضّغوط المكثّفة من قبل الفيدراليّة اليهوديّة واللّوبي الإسرائيلي صفو مسار المعرض، استمرّ عرض الأعمال كما كان مخطّطاً حتّى ٢٢ من يونيو الماضي، كما منحت هجمتهم منصّة صحافيّة عالية قُدّمت لرحاب على طبقٍ من فضّة، استخدمتها لإعادة الكشف عن «اللّامرئي» من الانتهاكات الإسرائيليّة لحقوق الإنسان، كما استخدمتها لاستنكار التّدخّل، معتبرةً إيّاه «امتداداً للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في كندا»، وضاعفت من تأثير نقدها على الصّعيدين الفنّي والسّياسي. فقد اجتذبت حادثة تدخّل السّفير اهتمام قاعات عرضٍ أخرى، وتلقّت رحاب اتّصالات من مختلف أنحاء العالم لتقصّي أخبار المعرض وتفاصيله. وبالتّالي، ومن حيث لا يدري، منح الهجوم على المعرض صوتاً للفرد والجماعة الّتي أراد إسكاتها، رافعاً من شأن الذّاكرة الّتي حاول طمسها.

تويتر