فيلم صامت في مهرجان القاهرة السينمائي

«باب الوداع».. السينما تستعين بالراديو

صورة

من الغريب أن تتم مهاجمة مخرج فيلم «باب الوداع» كريم حنفي، الفيلم المصري الوحيد الذي يمثل مصر في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ36، بسبب أن الفيلم سمته الصمت، ومطالبته بضرورة إخراج أربعة أفلام على الأقل قبل اخراجه هذه النوعية من الأفلام، هذا الهجوم حرمهم فعلياً التدقيق في الفيلم من الناحية الفنية ومن ادارة المخرج للممثلين، التي تعتبر استثنائية.

كلمة المخرج

 

الفيلم لا يساوي حكايته، الفيلم هو كل لقطة من لقطاته، هذا الفيلم تجربة سمعية بصرية لا تتعلق بأهداب القصة والسرد الدرامي المألوف، ولكن تقوم عوضاً عن ذلك على الترابط الشاعري بين المشاهد التي هي لوحات تعبيرية أقرب ما تكون في بنائها إلى بناء القصيدة المجازية التي تلمح وتشير إلى معناها أكثر ما تفصح عنه.

فى هذه التجربة أعني بما هو جمالي في فن السينما، باعتباره فناً بصرياً بالأساس في مواجهة كل هذا القبح وفي مواجهة كل هذا الخواء، أعني بتناول أزمات الشخصيات الروحية وصراعها بين ما هي عليه وما تتوق أن تكونه وطريقها في الحياة.

هذا الفيلم عن رحلة الإنسان إلى نفسه وصراعه مع الخوف الذي يمنعه من أن يتبع نداء قلبه، وعن الخوف من الرحلة ذاتها ومن الطريق ومن السفر.


أحلام مؤلمة

أنت يا من كنت دوماً هنا.. ستكون في كل مكان.. هكذا أخبر الملاك الابن الذي لم يفارق منزله ابداً.

ولكن لا يستطيع الابن المطارد بالنبوءة أن يبدأ رحلته لأنه يصارع شعوراً بالذنب تجاه أمه الحزينة التي عاشت سجينة منزلها الخاوي حارسة على ابنها الوحيد ومودعة جمالها الآخذ في الذبول يوماً بعد يوم.

الأم الحزينة لا تقبل أن ترد إلى الحياة دون مقابل الهدية التي تلقتها دون مقابل.. فتدخل في دوامة أحلام مؤلمة تمهد لرحيل ابنها الوحيد وتعلمها أن تقبل وحدتها الأبدية لتفتح له الباب ليبدأ رحلته الطويلة إلى نفسه.

الفيلم الذي انتظر أربع سنوات من التحضيرات خرج الى النور أخيراً، يحمل حكاية صامتة باستثناء بعض الآيات القرآنية عبر الإذاعة، وبعض الأغاني.

سلوى خطاب، أحمد مجدي، آمال عبدالهادي، وشمس لبيب هم أبطال الفيلم، الذين أدوا أدوارهم بحس مسرحي ينساب مع شكل الفيلم المراد ايصاله للجمهور. فهو يدخل الى عوالم النفس البشرية، وسيكولوجية الإنسان، ضمن مشاهد مصنوعة بحرفية تستحق الثناء. فالقصة مبنية على هلوسات خاصة بالمخرج نفسه، على حد تعبيره، هو يؤكد أنه صنع الفيلم ليس للربح التجاري بل ليقدم فكرة مختلفة.

وتدور أحداث الفيلم حول ثلاث قصص في منزل يضم الجدة والأم والابن، حيث يتابع المشاهد طوال الوقت تعابير كل فرد من الأسرة، تفاصيل منمقة ومزينة وجميلة تريح العين من مشاهد مصورة بطريقة فنية أشبه بلوحات تشكيلية.

هو نوع من الأفلام الذي يحول الشعر الى مشهد، ويحول انشودة صوفية الى حالة، ويحول أغاني أسمهان الى فكرة.

من الطبيعي ألا يروق الفيلم لكثير من الجهور المصري اعتاد مشاهدة أفلام تجارية، لكن الحقيقة أن «حدوتة مصرية» كاملة وشاملة قد تلمس تفاصيلها عبر كل هذا الصمت في الفيلم.

فهو يحكي المظلوم الذي اذا مات تظل روحه معلقة بين السماء والأرض، ينتظر من يأخذ بحقه، لكن لم يتوقع هذا المظلوم أن شعباً كاملاً سيخرج الى النور من أجله، ليقرر بعدها النوم بعمق في مكانه الجديد.

هو يحكي الأم، التي أهداها حنفي الفيلم «إلى حزن أمي، خوف أمي» الحزن والخوف حالتان تحتاجان دوماً الى الإنصاف.

هو يحكي الموت، وطقوسه، وتراجيديته، هو يحكي الأمل ويحكي الخضوع، يحكي كل المتناقضات في النفس البشرية الى تحتاج الى مشهد صارم ينهي كل هذا ويعيد لها توازنها.

من الصعب مثلاً أن يمر مشهد الجدة المتأنية بصنع قهوتها، وتهذيب شعرها، والانتقال بالإذاعة من أثير الى اثير، وطريقة تدخينها، ونظرتها الى الفراغ، مروراً عابراً، بل الوقوف عنده يعطيك فرصة لمعرفة ذوق هذا المخرج الشاب، ومن الصعب ألا يتم الحديث عن سلوى خطاب، التي أتحفت المشاهدين أخيراً بأجمل الأدوار في الدراما المصرية، وهي تجلس وتقص شعرها أمام مرآتها في كل حالة موت جديدة، والشاب أحمد مجدي، وطريقة تعاطيه مع الضوء وقدسية المشهد ونظرة عينيه التي تغني عن كل الكلام، فالفيلم جميل، ومختلف، وجرأة كبيرة من المخرج أن يقدمه، لكنه يحتاج فعلاً الى من يحبه ويفهمه ويثني عليه، دون التقليل من قدرات من يريد أن يقدم المختلف.

تويتر