تكبّد الأجداد من أجله العناء في زمن «الإمكانات البسيطة»

الحج.. رحلة القلوب إلى البيت العتيق

صورة

التاريخ هو الهوية الحقيقية للأمم والشعوب، وهناك علامات فارقة في تاريخ الشعوب والدول لا يتشابه ما قبلها مع ما بعدها، كما في تاريخ الثاني من ديسمبر 1971، الذي يمثل في حقيقته جوهر تاريخ دولة الإمارات، واللبنة الأساسية التي بنيت عليها أسس قيام الدولة وتطورها ونموها، واستناداً إلى أهمية هذا التاريخ، وإلى حقيقة أن «تاريخ الإمارات المشرق لا يقل أهمية عن حاضرها الزاهي»،

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/09/29123_EY_11-01-2015_p28-p29-1.jpg

جاءت مبادرة «1971»، التي أطلقها سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، بهدف الإسهام في توثيق تاريخ الدولة في جميع المجالات.
واستلهاماً لهذه المبادرة المهمة، تأتي هذه الصفحة الأسبوعية التي تقدمها «الإمارات اليوم»، بالتعاون مع «الأرشيف الوطني»، التابع لوزارة شؤون الرئاسة، للتعريف بشكل الحياة في الإمارات قبل الاتحاد، وخلال بداياته الأولى، والجهد الكبير الذي بذله الآباء المؤسسون للدولة من أجل قيامها.


هي رحلة ليست مثل غيرها من الرحلات، فهي رحلة لإنعاش القلوب وشحن الإيمان بما تحمله من روحانيات لا تتوافر في غيرها من الرحلات، إنها رحلة الحج التي طالما كانت أمنية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، التي من أجلها تكبد الآباء والأجداد كثيراً من التعب والعناء في وقت كانت الإمكانات فيه بسيطة والمخاطر والصعاب كبيرة، على عكس الوقت الحالي الذي أصبح الحج فيه أكثر سهولة، وتوافرت للحجيج كل وسائل الراحة والأمان.

قديماً كانت الإبل هي وسيلة الترحال التي يستعين بها الحجيج في رحلة الحج التي تتم براً، وكانت تستغرق ثلاثة أشهر تقريباً، كما كانت رحلات أخرى تخرج بحراً من جزيرة دلما إلى بحر عُمان ثم اليمن وجدة، أو من دبي إلى الدمام ثم يكمل براً إلى المدينة المنورة ومكة، وكانت الرحلة تستغرق أحياناً سنة كاملة، وكان الحجاج يخرجون في مجموعات تضم رجالاً ونساء على الإبل ومعهم طعامهم وشرابهم واحتياجاتهم. في ذاك الوقت، لم يكن الحج متيسراً لكثيرين، بسبب التكاليف المالية والمشقة الكبيرة التي يجدها الحاج خلال الرحلة سواء براً أو بحراً، وبعضها مرتبط بصعوبة الطريق، وطول السفر وعدم الأمان في حال السفر براً، ولم يكن السفر بحراً يخلو من مخاطر أيضاً، منها طول السفر والعواصف التي يمكن تقابل السفينة التي قد تعرضها للغرق في بعض الأحيان، إضافة إلى أمراض مرتبطة بالبحر مثل الدوار. ولكن لأن الإنسان في ذلك الوقت، أي في بدايات القرن الماضي وحتى قبيل اكتشاف النفط في المنطقة، كان معتاداً لمشاق الحياة، وكان عدم القدرة على توفير نفقات الرحلة هو العائق الأبرز أمام الناس لأداء فريضة الحج، التي كانت تصل كلفتها في فترة الأربعينات ما يقرب من 300 روبية.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/09/Zayed-bin-Sultan-Al-Nahyan-(1).jpg

المعلومات عن الحج قديماً، وكثير من التفاصيل المرتبطة تحتاج إلى بحث وتسجيل وتدوين، خصوصاً أن المصدر الرئيس لهذه المعلومات هم المسنون الذين عاشوا في فترة الأربعينات والخمسينات، وللأسف كثير منهم توفي أو باتت ذاكرته لا تقدر على استعادة التفاصيل البعيدة. ولذلك عمد بعض باحثي التراث إلى إجراء مقابلات مع المسنين حول الحج وتدوين ما حصلوا عليه من معلومات لتكون مرجعاً للباحثين والمهتمين، ومن الباحثين الذي دوّنوا عن الحج ورحلاته قديماً الباحث الإماراتي عبدالله عبدالرحمن، الذي يذكر ضمن ما دونه في هذا المجال أن قيادة قوافل الحج في الصحراء لم تكن سهلة، فقد كانت تتم بالاستعانة بخبراء في الطريق يعرفون جيداً الطريق وأماكن آبار المياه الصالحة للشرب، وأماكن توافر الكلأ التي ترعى فيها الإبل وتحصل على قسط من الراحة قبل استكمال المسير. وكانت الرحلات تبدأ مع انتهاء عيد الفطر وبداية شهر شوال. ومن رحلات الحج التي وثقها عبدالرحمن رحلة الحاج عبدالله بن نصيب من خور كلباء الذي حج 32 مرة، وبحكم الخبرة التي اكتسبها أصبح مقاولاً لخدمة حجاج المنطقة الشرقية عموماً وخور كلباء خصوصاً، فكان يجمع الحجاج وينقلهم بسيارات شحن كبيرة إلى دبي، ومن ثم في السفن إلى الخبر وكانت الرحلة تستغرق شهرين ونصف الشهر تقريباً.

ويروي عبدالله عبدالرحمن إحدى رحلات حج بن نصيب، التي ضمت مجموعة من سبعة حجاج، بدأت رحلتهم عقب عيد الفطر، حيث استقلوا إحدى الشاحنات الكبيرة التي كانت حديثة الوصول إلى المنطقة آنذاك، ووصلوا إلى دبي بعد نصف يوم، حيث كانت تصطف اللنشات المتنقلة بين موانئ الخليج للتصدير والاستيراد، وعلى متن إحداها وصلوا إلى البحرين في رحلة استغرقت أياماً عدة، إذ أقاموا لبضعة أيام في مساكن بالأجرة بخمس روبيات، ثم رجلوا من البحرين إلى الخبر في السعودية، وهناك التقوا بمقاول يسمى «العماري» وكان من البحرين، أسكنهم في غرفة مستأجرة ووفر لهم طباخاً، وتكفل بكل شيء في الرحلة حتى عودتهم من الأراضي المقدسة إلى الخبر مرة أخرى مقابل 250 روبية. ويشير بن نصيب إلى أن رحلتهم من الخبر إلى المدينة، التي استغرقت سبعة أيام بلياليها، كانت بالغة المشقة والعناء، فقد تمت برفقة عدد كبير من الحجاج داخل شاحنة كبيرة مكشوفة، في فصل الصيف اللافح الحرارة، وعبر المناطق الرملية والطرق الوعرة، وهم يجلسون على حملة الشاحنة من الحطب الذي كانوا يستخدمونه للطبخ في محطات الاستراحة على الطريق، وإلى جانب الحطب كانت القدور وحقائب الحجاج وغيرها، وكان معظم السير بالشاحنة في الليل لتجنب حرارة الشمس الشديدة، وكثيراً ما كانت السيارة تقع ليلاً في أكمة ثم يكتشف السائق مع بزوغ الفجر أنه تاه في الصحراء فيضطر إلى العودة لينطلق من جديد.

من الذين تناولوا رحلات الحج قديماً الباحثة شيخة الغاوي، التي قابلت بعض المسنين وتحدثت إليهم عن ذكرياتهم حولها، ومن هؤلاء المواطن محمد بن مايد بن ثاني، الذي أوضح أن «معظم الأجداد ساروا إلى الحج على الجمال، متذكراً القهوة والشاي التي كان الحجاج يأتون بها من الحجاز هدايا للأهل والأحباب».

وأضاف أن «رحلة الحج في الماضي كانت رحلة شاقة تمتد بين صحاري الإمارات والسعودية. وقبل قرن أو أكثر كان طريق الحج البري محفوفاً بالمخاطر، إذ يعد الحاج في ذلك الوقت شبه مفقود، وقد يعود لأهله أو لا يعود بسبب انتشار الأمراض والحيوانات المفترسة، إضافة إلى الجوع وقطاع الطرق». وقال: «إن الناس كانوا يستعدون لموسم الحج قبل عيد الفطر المبارك، وأحياناً أكثر من ذلك»، مضيفاً أن «الشخص الذى ينوي الحج يبدأ في البحث عن الرفقة الصالحة الطيبة التي تساعده على الخير، وتسعى إليه ثم يقوم بتجهيز راحلته من الجمال، وعادة يجهز الحجاج قافلة كبيرة من الإبل جزء منها لركوب النساء والرجال وجمل يحمل الحطب، فيما تخصص أربعة جمال لحمل الطعام والزاد من مختلف أنواع المؤن والمواد الغذائية، مثل الأرز و(المالح) أي السمك المملح، و(العوال) وهو السمك المجفف والسكر والسمن والعسل، فيما يحملون الماء في (السعن) وهو وعاء من الجلد يوضع فيه الماء، إضافة إلى الأسلحة النارية الخفيفة مثل البنادق التي يحملها الحجيج معهم اتقاء خطر وأهوال الطريق وللصيد، ويحملون التمر كغذاء للإبل أثناء الرحلة، ويغطونها بالخيش لحمايتها من برودة الطقس، ويجمعون لها أثناء الرحلة أوراق شجر السمر ويقومون بطحنها وعجنها ليطعموا بها الإبل، لكي تقوى على المسير في هذه الرحلة الطويلة».

التاريخ هو الهوية الحقيقية للأمم والشعوب، وهناك علامات فارقة في تاريخ الشعوب والدول لا يتشابه ما قبلها مع ما بعدها، كما في تاريخ الثاني من ديسمبر 1971، الذي يمثل في حقيقته جوهر تاريخ دولة الإمارات، واللبنة الأساسية التي بنيت عليها أسس قيام الدولة وتطورها ونموها، واستناداً إلى أهمية هذا التاريخ، وإلى حقيقة أن «تاريخ الإمارات المشرق لا يقل أهمية عن حاضرها الزاهي»، جاءت مبادرة «1971»، التي أطلقها سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، بهدف الإسهام في توثيق تاريخ الدولة في جميع المجالات.

واستلهاماً لهذه المبادرة المهمة، تأتي هذه الصفحة الأسبوعية التي تقدمها «الإمارات اليوم»، بالتعاون مع «الأرشيف الوطني»، التابع لوزارة شؤون الرئاسة، للتعريف بشكل الحياة في الإمارات قبل الاتحاد، وخلال بداياته الأولى، والجهد الكبير الذي بذله الآباء المؤسسون للدولة من أجل قيامها.

أرقام وأحداث

300

روبية، كانت كلفة رحلة الحج في الأربعينات من القرن الماضي، وهو مبلغ لم يكن يتوافر لكثيرين في ذلك التوقيت.

15

من الإبل، كانت قوافل الحج تتكون غالباً منها، بعضها لركوب الحجاج، والبعض الآخر لحمل المؤن والأمتعة.

1346

هجرية هو العام الذي أسست فيه أول دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة المشرفة في منطقة أجياد في مكة المكرمة.

75

يوماً تقريباً (شهران ونصف الشهر) كانت رحلة الحج تستغرقها غالباً في أربعينات وخمسينات القرن الماضي.

«بروة» المرور

لم تكن جوازات أو وثائق السفر معروفة في المنطقة قديماً، ولكن كانت هناك نقاط معينة متعارف عليها يحصل المسافر منها على «بروة» وتعني ورقة صغيرة تحمل إجازة أو إذن بالمرور، فكان الحجاج يحصلون على «بروة» من ممثل آل سعود في منطقة تسمى سلوى تسهل لحاملها السفر بين المدن والقبائل في المملكة العربية السعودية من دون أن يعترضه أي أحد.

حج وتجارة

كان بعض الحجيج يذهب لأداء الفريضة وللتجارة في الوقت نفسه، وهؤلاء تستغرق رحلتهم نحو أربعة أشهر يذهبون على الإبل، وبعد الانتهاء من أداء مناسك الفريضة يبيعون الإبل بغرض التجارة والاستفادة من أسعار الإبل المرتفعة هناك، بعدها يعود بعضهم عن طريق جدة إلى الدمام بالمنطقة الشرقية بالسعودية عن طريق القطار ويبحرون منها إلى دبي، والبعض الأخر يعود إلى الإمارات على ظهر الإبل مرة أخرى.

كسوة الكعبة

كسوة الكعبة من أهم مظاهر الاهتمام والتشريف للبيت الحرام، وتاريخُها جزء من تاريخ الكعبة المشرفة نفسها، ومرت كسوة الكعبة منذ بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأطوار مختلفة. وغالباً ما كانت تخرج كلفة كسوة الكعبة من بيت مال المسلمين، التي تفرّدت مصر بكسوتها، فقد كانت تأتي من مصر من مال الوقف الذي وقفه الملك الناصر بن قلاوون على الكسوة منذ سنة 750 هجرية، ثم صارت بعد ذلك ترسل من قبل الحكومة المصرية. حتى صدر أمر الملك عبدالعزيز رحمه الله بإنشاء دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة المشرفة في منطقة أجياد في مكة المكرمة، أمام دار وزارة المالية العمومية، في مستهل شهر محرم سنة 1346هـ، وقد تمت عمارة هذه الدار على مساحة 1500 متر مربع، فكانت أول مصنع لحياكة كسوة الكعبة المشرفة بالحجاز منذ كسيت الكعبة في العصر الجاهلي إلى العصر الحالي.

رايات واحتفالات

مع اقتراب عودة الحجاج، تستعد أسرة الحاج بوضع الأعلام الخضر على أسطح المنازل، باعتباره رمز الطهارة ولون الجنة، وفور دخول الحاج للبلدة يبدأ بعض الأهالي والجيران بإطلاق عدد من طلقات بندقية خاصة بالاحتفالات إعلاناً عن وصول الحجيج، وكانوا يستخدمون النثور، وهي عبارة عن حلويات ومكسرات وأوراق وزهور خضر، وبعض القطع المعدنية تنثر على رأس العائدين من الرحلة على صوت أهازيج ترحيباً بالعودة.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر