زبائنها من دول الخليج

المراكب الخشبية على «شاطئ المعيريض».. صناعة وتراث

صورة

مخطئ من يعتقد أن مهنة صناعة المراكب الخشبية اختفت وغادرت الشواطئ الى غير رجعة، فعلى شاطئ المعيريض في إمارة رأس الخيمة يمكن مشاهدة ورش المهنة وهي لاتزال تعمل بنشاط وينبعث منها ضجيج المخارط والمناشير، بينما العمال يتنافسون بمطارقهم وأزاميلهم في غرس المسامير لتثبيت قطع الخشب الضخمة على هياكل المراكب أثناء عملية التصنيع.

وحين نسأل عن جدوى صناعة المراكب الخشبية الآن مع التطور الذي أوجد وسائل نقل أخرى عصرية، يأتي الرد من أصحاب الورش، أمثال عبدالله المنصوري، بسؤال مضاد هو: ولماذا نتوقف عن صناعتها لطالما يوجد في الساحة زبائن يتهافتون على اقتناء المراكب الخشبية.

ورشة المنصوري التي تسمى «رأس الخيمة لتصليح القوارب الخشبية» تتخذ موقعاً قريباً من شاطئ البحر وفي داخلها تشهد حركة دائبة لمجموعة من العمال يقفون خلف آلات يمارسون قطع كتل الخشب الضخمة حسب المقاسات، وغيرهم يتنافسون في غرس المسامير في هياكل السفن التي تحت التصنيع، ومنها سفينة خشبية ضخمة تثير الانتباه، وقبل أن نسأل المنصوري عن ماهيتها، يجيب قائلاً: «هي سفينة مصممة بناء على رغبة أحد الزبائن من دولة قطر الشقيقة يرغب في استخدامها كفندق عائم، وتبلغ من الطول 100 قدم والعرض 33 قدماً والعمق 12 قدماً، وفي صناعتها تم استخدام 40 طناً من الخشب وطنّين من المسامير، بينما استغرق العمل فيها ثلاث سنوات بمشاركة 16 عاملاً.

وتبدو الورش في داخلها مواكبة لتطور العصر، فبعض الآلات المستخدمة في عمليات التصنيع التي كانت يدوية في السابق هي الآن تدار ميكانيكياً وبواسطة الطاقة الكهربائية، مثل المناشير، الكاشطات، الفأس، الازميل، المثقاب، المطرقة، الصنفرة، الملزمة والمخروطي، ما يجعلها مؤهلة لصناعة جميع الأنواع كالجالبوت الشوعي، البوت، الصمعاء، وهوزي، وغير ذلك.

صناعة المركب الخشبي تتم بالتدرج من أسفل الى أعلى انطلاقاً من نقطة البداية التي يطلق عليها العمود الذي يشكل القاعدة، وتليه السمكة والزعنفة في الخلف، ثم الهنام في الأمام، وفي تصميم المركب ثلاثة ألواح يبنى عليها المركز الذي يشكل نصف المرحلة، وقبل الانتقال الى مرحلة جديدة يقتضي الأمر استخدام ميزان مائي تجنباً للخلل، ومن ثم تلي ذلك المرحلة المتمثلة في تركيب الممسكات.

بالنسبة لصانع المراكب الخشبية، عبدالله المنصوري، الذي ورث المهنة عن أجداده، لديه قناعة راسخة مفادها أن المهنة لا يمكن أن تغادر شواطئ رأس الخيمة لأنها تعد من صميم التراث، علاوة على المزايا التي تتمتع بها المراكب الخشبية، كونها الأجدى للاستخدام البحري من حيث الأمان والسلامة مقارنة مع الطرادات المصنوعة من مادة «الفيبرجلاس»، التي شهدت في الآونة الأخيرة العديد من الحوادث شكلت خطراً على حياة العاملين عليها، وأيضاً المحافظة على البيئة البحرية، موضحاً أن المراكب الخشبية في الوقت الراهن في بعض الدول لاتزال تستخدم في كثير من المهام مثل سباقات التجديف والرحلات البحرية ومهام النقل والصيد.

أما عن المصاعب التي تواجه المهنة فيقول: «في حقيقة الأمر، ان صناعة المراكب الخشبية كغيرها من المهن لم تكن بمنأى عن ظاهرة الغلاء الذي طال كلفة المواد المستخدمة في عمليات التصنيع، وبالذات الخشب المسمى (الصاج)، وهو الذي يعتمد عليه في صناعة المراكب، نظراً لأنه مقاوم لمياه البحر المالحة، ونتيجة لتوقف استيراد الخشب من الهند بات يستورد من بورما وإفريقيا، اذ تبلغ كلفة القدم المكعب منه 420 درهماً، أضف الى ذلك الماكينات وأجرة العمالة صاحبة الخبرة في الصناعة»، لافتاً الى أن مصاعب الورش تفاقمت أخيراً نتيجة رغبة البلدية في ازالة الورش من موقعها المجاور لشاطئ بحر المعيريض، ما يحرمها مزايا الموقع المتمثلة في المحافظة على مرونة الخشب وحمايته من التلف، وتسهيل عملية سحب المراكب الخشبية باتجاه مياه البحر، بعد الانتهاء من مهمة تصنيعها، وهي مهمة شاقة في الغالب تعتمد على سواعد العمال أنفسهم ولا شيء آخر.

ويتذكر المنصوري أن رأس الخيمة عرفت صناعة المراكب الخشبية منذ مئات السنين، حيث كانت تمثل الوسيلة الوحيدة التي يعتمد عليها في القيام بمهام النقل البحري، وأن من كانوا يملكون تلك المراكب هم أصحاب الجاه والمال، وكانت صناعة المراكب الخشبية أشبه من حيث الأهمية بصناعة الطائرات في وقتنا الحاضر، لأنها ارتبطت بحياة الناس وأسفارهم، ونقل أثقال البضائع لمسافات بعيدة، مؤكداً أن الصناعة يومذاك كانت تعتمد على أبناء الدول الخليجية بمفردهم، لكن بعد الطفرة الاقتصادية التي صاحبت الاكتشافات النفطية تقلص الدور الوطني عن العمل في الورش، ما أتاح الطريق لدخول الأيدي العاملة الآسيوية في المهنة.

ويقول فهد محمد العسيري المعاضيد الذي جاء من قطر الى رأس الخيمة لغرض تصنيع مركب خشبي: «في قناعتي أن مهنة صناعة المراكب الخشبية ستبقى خالدة في منطقة الخليج لطالما أنها، أي المراكب، لاتزال تحتفظ لها بموطئ قدم مهم في مياه البحر، لاسيما في دولة قطر التي تحرص على بقائها نشطة، لكونها من صميم التراث الوطني، ومن أجل ذلك تحفز المواطن القطري على امتلاك مركب خشبي ضمن مسعى لتقليص الاعتماد على الطرادات المصنوعة من مادة (الفيبرجلاس)»، مشيراً الى أنه جاء الى رأس الخيمة المعروفة بصناعة المراكب الخشبية، وتمكّن من تصنيع مركب بمواصفات تتواءم مع أغراض النزهة والرحلات.

تويتر