بحثا عن إسبيريتو بامبا آخر مدن حضارة الإنكا

رجلان يستكشفان الجبال والتاريخ برفقة بغل

المستكشفان والبغل الخاص بهما. أرشيفية

عرفتُ الكاتب والمستكشف بندكت ألين، الحديث للكاتب، منذ بضع سنوات، ولكنني لم أرافقه في السفر. ولكن الآن طلبت منا محطة «بي بي سي» (هيئة الإذاعة البريطانية) القيام برحلة معاً، عبارة عن مغامرة نتسلق من خلالها سفوح جبال الانديز، نحو منطقة الأمازون لرؤية مدينة إسبيريتو بامبا، وهي آخر مدينة من حضارة الإنكا، التي تم بناؤها في أخفض مستوى في الغابة المغطاة بالسحب دائماً. ولاتزال آخر الآثار التي تركت في البيرو موجودة هناك، ويمكن الوصول إليها عن طريق ركوب البغال، كأفضل وسيلة ممكنة.

الزواج

يتزوج الإنكا عادة في سن مبكرة بين 15 و20 سنة، والغريب في الأمر أن الزوج لا يكون له يد في الاختيار، بل الأسرة، أو الزعماء، أو مالكو الأراضي، هم الذين يختارون له زوجته، والمقياس الأساسي في الزواج هو التكاثر العددي، حيث يتوالدون بأعداد كبيرة للحاجة إلى أيادٍ تساعد في العمل، والمساعدة في حياة الجبال القاسية، وعادة ما يقدم الذهب، أو الأحجار الكريمة، كهدايا من أسرة الزوج، ويقدم أهل العروس الملابس الصوفية باهرة الغزل، والحبوب المخزنة.

 

حضارة الإنكا

الإنكا (Inca) إمبراطورية قديمة بنتها شعوب من الهنود الحمر في منطقة أميركا الجنوبية، وكانت أكبر الإمبراطوريات في أميركا الجنوبية في العصر قبل الكولومبي، وهي ذات حضارة ضاربة في القدم، وتشمل أرض الإنكا بوليفيا والبيرو والأكوادور وجزءاً من تشيلي والأرجنتين، قاموا ببناء عاصمتهم كسكو، وهي مدينة مترفة ومليئة بالمعابد والقصور تقع على ارتفاع 11 ألف قدم فوق مستوى سطح البحر في جبال الأنديز، وقد أطلق عليها اسم مدينة الشمس المقدسة، وتبلغ مساحتها نحو مليون كيلومتر مربع.

وكانت بدايتها على جبال الأنديز في نحو سنة 1100 م، واستمرت حتى الغزو الإسباني عام 1532 م. بدت حضارة شعوب الإنكا للناظرين متخلفة في شكلها وطريقة معيشتها، ولكنها تركت بصمة عجيبة ومحيرة تلفّها الأساطير التي تقول إنهم أتوا من الفضاء الخارجي لروعة الإرث الذي تركوه.

واخترنا البغل (واشنطن) في الحال، باعتباره البغل الشخصي لكلينا. وكانت البغال الأخرى أقل يقظة واكتراثاً بمحيطها. وقررنا أن (واشنطن) يتمتع بالتركيز الهادئ بأذنيه المثقوبتين، ولونه الجذاب، وهو عبارة عن اللون البني الخفيف المختلف عن بقية البغال الأخرى. وقام سائق البغال الذي تم التعاقد معه حديثاً، بوضع 12 بيضة في كرتونة على ظهر أحد البغال، بحيث كانت متوازنة على نحو «قلق»، وكان ذلك أسلوباً يتخذه أهل المنطقة، واذا لم تسقط البيضات، فإن ذلك يعني أن كل الحمولة على البغال لن تسقط.

وقبل سنوات عدة أغرمت بالغابة المغطاة بالسحب البيروفية، وهي علاقة نمت وأصبحت أكثر حميمية مع مرور السنوات. ويطلق البيروفيون عبارة ودودة على الغابة المغطاة بالسحب «لا سيجا دو سيلفا» أي «حاجب عين الغابة»، علماً أنها لا تحظى من قبل البشر بالاهتمام نفسه بالغابات المطيرة الواقعة تحتها، الأمر الذي يسمح بنمو الأزهار البرية بصورة أكثر حرية.

وكنت في هذه الأثناء أستطيع سماع صهيل (واشنطن)، وشعوره بالإجهاد أو القبول بالأوامر التي تصدر اليه، بصورة واضحة. وكان هذا البغل يستطيع أن يجعل مشاعره مفهومة للآخرين. وبدا واضحاً سريعاً انه لم يكن سعيداً بمتابعة آثار طرق الإنكا، التي كنا نصادفها. وفي تلك الليلة وحالما نصبنا الخيام وجلسنا، بدأنا الحديث، وقال بندكت مازحاً: «جربت ركوب الجمل ذات مرة. لقد كان صعباً جداً»، وتحدثنا في تلك الليلة عن المستكشف الأميركي الشهير حيرام بنغهام، وكيف انه كان يجلب معه معدات كثيرة، وكميات كبيرة من الأطعمة، وكل ما يخطر على باله، في حين أن الرحالة المعاصرين، مثل بندكت، يكتفون بالقليل.

وفي صباح اليوم التالي، ذهبت لرؤية (واشنطن) لوحدي كي أتحدث معه وجهاً لوجه، وكان يبدو سعيداً وجميلاً بأذنيه المثقوبتين، وتبدو عليه السعادة بعد أن نام ليلة جيدة وهو يرعى العشب الكثيف. وشعرت بأني ملتزم بحماية هذا الحيوان، خصوصاً بعد أن ذكر بندكت أنه أكل كلبه خلال رحلة استكشافية له في الأمازون فقلت له «لا تخف، يا (واشنطن)، مهما نفدت الإمدادات لن أدع بندكت يأكلك».

وتناولنا فطوراً منوعاً، وكنت أشعر بالقلق بشأن ما يمكن أن أقوم به. وكنت قد عبرت هذا الطريق من قبل، وأعرف أنه اذا كان هناك الكثير من الطين والانزلاقات فإننا سنواجه الكثير من الصعوبات. وكان ابنائي قد حذروني من القيام بهذه الرحلة وركوب الصعاب ومواجهة المخاطر. وعلى الرغم من أني قمت بالعديد من الاستكشافات للأماكن الغريبة، إلا أني طالما كنت آخذ حماماً ساخناً في نهاية المطاف فلا أشعر بالتعب، في حين أن بندكت كان يأخذ حماماً سريعاً وبارداً.

وكان قائد بغال حملتنا لديه كلب هجين أشعث يدعى (لوكو) أي (المجنون)، وكان مفيداً لحمايتنا من الكلاب العدوانية التي صادفتنا، خلال طريقنا عبر الانديز. وكنت أشعر بالألفة مع هذا الكلب عندما كان يطرد الكلاب والحيوانات الأخرى عنا.

وبعد يومين من السير وصلنا إلى مستوطنة صغيرة يطلق عيها كونسيفاديوك، وهي محاطة بمزارع القهوة. وبقيت كما هي تماماً مثل ما شاهدها الرحالة بنغهام قبل قرن من الزمن، على الرغم من أن السكان المحليين أخبروني بأن المنطقة ضربها الوباء الأصفر، الذي غطى الورق بالبقع. وكان ذلك يوم السبت، وفي صباح اليوم التالي، أي الأحد، وصل عدد من المعلمين للبدء في افتتاح المدرسة الابتدائية. وقام المعلمون بتحدينا في لعبة كرة قدم، وكنت أرتدي حذاء ثقيلاً بسبب كمية الطين العالقة به. في حين أن المعلمين كانوا يرتدون احذية رياضية خفيفة، ويتمتعون بمهارة البرازيل في لعب الكرة. وكان (واشنطن) مثل كثيرين يشاهد المباراة من الخط الجانبي، مثل العديد من سيارات الفان التي كان يركبها المسافرون. وكانت مكافأته بعد رحلة طويلة أن يشاهد فريقه يخسر ثمانية لصالح البيرو مقابل ستة لصالح بريطانيا.

وبعد أن قطعنا ميلاً او أكثر من المدينة وصلنا الى «بيدرا كاساندا»، ويطلق عليها احياناً «الحجارة المتعبة»، وهي عبارة عن صخرة تم حفرها من أجل مدينة اسبيريتو بامبا، ولكن لم يتم إنهاء العمل فيها، فتركت في ما بعد في الطريق.

وعندما وصلت إلى آثار مدينة إسبيريتو للمرة الأولى، كانت مغطاة تقريباً بالأعشاب، ولكن الحكومة بدأت برنامجاً يهدف إلى ترميم هذه الاثار، ليس من أجل السياحة وانما كرسالة سياسية. ولذلك فقد كانت لوحة كبيرة بالقرب من مدخل الاثار كتب عليها «المعقل السابق لمقاومة الإنكا».

لقد كانت لحظة جميلة، وكانت الشمس ساطعة، وعلى الرغم من ان ذلك يعتبر غير مهم، بينما نحن نمشي في ظل الأشجار الكثيفة، إلا أن الأمر تغير الآن بعد أن أصبحنا في ساحة المنطقة الأثرية تحت لهيب الشمس الاستوائية، وكأننا نقف تحت الأضواء الساطعة في ملعب كرة قدم.

وكان مركز المدينة فقط هو الذي تم ترميمه، في حين كانت هناك أدراج غير مرممة، تؤدي إلى الغابة، أي إلى الأجزاء الأكبر مساحة من هذا التجمع، الذي نمت فوقه النباتات بصورة كبيرة لدرجة جعلته يختفي، ويرجع ذلك إلى عدم وجود نفقات كافية لتنظيف المنطقة، ولكني أحبها على كل الأحوال رغم أنها لم يتم تنظيفها جيداً.

وغالباً ما كنت أجد الكآبة تهبط عليّ، وفي الحقيقة، والغضب أيضاً، عندما زرت هذه الصروح التابعة لحضارة الإنكا. وفي الحقيقة انها تمثل شاهداً على قدرات هذا الشعب الاستثنائية في التخطيط، وتشييد المباني الجميلة، وسط كل هذه المناظر البرية. واعتقدت أنه من المستحيل نسيان أن حضارة الإنكا تطورت خلال عدد قليل من السنين، عندما كانت في ذروة مجدها. وخلال قرن من الزمن كانت حضارة الإنكا هي الأعظم من الناحية العمرانية في الأميركيتين.

الكاتب هيو تومسون

تويتر