بيانات الهواتف الذكية ترسم خرائط للتلوث الضوضائي
يُمثل التلوث الضوضائي إحدى مشكلات الحياة الحديثة، خصوصاً في المدن الكبرى، وينتج أساساً عن الأصوات المرتفعة لوسائل المواصلات، مثل السيارات وقطارات السكك الحديدية والطائرات، إلى جانب سوء تخطيط بعض المدن، الذي يسمح بوجود المنشآت الصناعية بالقرب من المباني السكنية.
وتطول الآثار السلبية للضوضاء جوانب مختلفة، بداية من الإضرار بحاسة السمع، والتسبب في التوتر العصبي واضطرابات النوم، وامتداداً للتأثير السلبي في إنتاجية الأشخاص وسلوكياتهم الاجتماعية، وصولاً إلى تسبب الضوضاء الناتجة عن الطائرات في زيادة خطر الإصابة بالسكتات القلبية لدى سكان المناطق القريبة، كما تصل الأضرار إلى الحياة البرية، كالتأثير في ملاءمة ظروف الحياة للحيوانات، وقدرة الضواري على تمييز فرائسها، وأيضاً على استخدامها للأصوات في التواصل في ما بينها، الأمر الذي دفع بعض الدول مثل ألمانيا والمملكة المتحدة في السنوات الأخيرة إلى إعداد خرائط للتلوث الضوضائي في المناطق الحضرية، بما يُسهم في توعية السكان بمستويات الضوضاء المحيطة بهم، كما تساعد على التوصل إلى سبل تقلل من أضرارها، وغالباً ما يعتمد إعداد هذه الخرائط على بيانات حول عدد سكان كل منطقة وحركة المرور ونوعية وسائل المواصلات.
لكن رسم خرائط للتلوث الناتج عن الضوضاء ليس بالمهمة اليسيرة، ويعود جزء من المشكلة إلى اختلاف مستويات الضوضاء على مدار ساعات اليوم، فعادةً تكون الطرقات أهدأ أثناء الليل، كما تتفاوت مستوياتها ضمن نطاق ضيق فتعلو في شارع، بينما تكون معتدلة في شارع آخر يجاوره، وهو ما جعل من إعداد هذه الخرائط عملية مكلفة مالياً، وتستغرق وقتاً طويلاً، ويُضاف إلى ذلك صعوبة تحديثها، فعلى سبيل المثال، تُحدث المملكة المتحدة خرائطها كل خمس سنوات.
ويعتقد فريق من الباحثين معظمهم من أستراليا، بوجود وسيلة أسهل وأفضل وأقل كلفة لرسم خرائط التلوث الضوضائي، تعتمد على التعهيد الجماعي، والاستفادة من الهواتف الذكية التي يحملها السكان أنفسهم، فتقرأ الهواتف، وتسجل مستويات الضوضاء في الشوارع، بينما يتجول مستخدموها لقضاء حوائجهم اليومية.
وتعتمد الفكرة على تمتع الهواتف الذكية المتوسطة بما يكفي من تقنيات تجعلها أجهزة رصد ممتازة؛ فتتوافر فيهما مكبرات الصوت لقياس الأصوات المحيطة، وإمكانية تحديد توقيت القياس، ومكانه من خلال «نظام تحديد المواقع العالمي» أو «جي بي إس».
ومع ذلك، لا يخلو الأمر من بعض الصعوبات، منها ضرورة التأكد من أن قياس الهواتف للأصوات يتعلق برصد ضوضاء الشوارع فقط، وهو ما يعني تجنب رصد المحادثات العادية التي قد يعتبرها الهاتف ضوضاء، بينما في الواقع لا تُزعج المارة، وأيضاً استبعاد أصوات حفيف الملابس وخشخشة المفاتيح والعملات المعدنية، إضافة إلى الاقتصار على قراءات الهاتف للضوضاء أثناء وجوده في يد المستخدم، وليس بداخل حقيبة أو جيب.
وفي مواجهة هذه الصعوبات، طور الباحثون عدداً من المعايير ليُحدد على أساسها الهاتف ما إذا كان سيقبل قراءة الأصوات المحيطة أم يتجاهلها، منها قياس خاصية «تحديد المواقع العالمي» لمعرفة ما إذا كان الهاتف في الهواء الطلق وليس داخل المباني، وكذلك استماع الهاتف إلى المحادثات المحيطة والانتظار حتى تنتهي ليبدأ قراءته مستوى الضوضاء.
كما اعتمد فريق البحث على مستشعرات التسارع المتوافرة في الهواتف الذكية، لتحديد ما إذا كان الهاتف في اليد أم بداخل جيب المستخدم، وبناء على هذه المعايير يُقرر البرنامج الذي يحمل اسم «إير فون» ما إذا كان سيقبل قراءة مستوى الضوضاء المحيطة.
وقال الباحثون إنهم تمكنوا من تحديد وجود الهواتف في أيدي المستخدمين بنسبة دقة وصلت إلى 84%. وبعد تحقق الهاتف من جميع المعايير يسجل قراءة لمستوى الأصوات المحيطة، ويُخزنها مع الموقع والتوقيت ليرسلها آلياً إلى مخدم مركزي بمجرد دخول المستخدم إلى منطقة تتوافر فيها إمكانية الاتصال اللاسلكي بالإنترنت «واي فاي»، ليتولى المخدم رسم خريطة لمستوى التلوث الضوضائي استناداً إلى قراءات الهواتف الذكية.
واختبرت الدراسة طريقة وبرنامج «إير فون» مع عدد من الهواتف، منها «نوكيا إن 95»، و«نوكيا إن 97»، وهاتف «إتش بي ـ آي بي إيه كيو»، وهاتف «إتش تي سي وان» الذي يعمل بنظام «أندرويد»، وأجريت التجارب في العاصمة الأسترالية كانبيرا (سيدني ليست عاصمة أستراليا).
وقارن فريق البحث بين بيانات الهواتف الذكية عن مستويات الضوضاء بأخرى جرى تسجيلها في الوقت نفسه باستخدام الطرق التقليدية لقياسات الأصوات، وبحسب الباحثين، كانت بيانات الهواتف الذكية دقيقة على نحو لافت للنظر، وأتاحت إعادة بناء البيانات المجموعة بالطرق التقليدية حتى في حال فقدان نسبة 40% من نقاط البيانات الأصلية، وقالت الدراسة إنه بمقدور نظام «إير فون» التفرقة الدقيقة بين مستويات الضوضاء بناء على عينات غير مكتملة من البيانات.
وفي الوقت نفسه، لا يخلو «إير فون» من عيوب أهمها استهلاكه طاقة بطارية الهاتف بسرعة، فيستمر الهاتف في العمل خمس ساعات فقط، وهي مدة لا تلائم معظم الأشخاص، ويرى الباحثون أنه بالإمكان التغلب على هذه المشكلة من خلال تحسين الهواتف.
وفي جميع الأحوال، قدم «إير فون» استخداماً إضافياً لمكبرات الصوت في الهواتف الذكية التي يسعى باحثون آخرون للاستفادة منها في تشخيص بعض الأعراض المرضية، والكشف عن البيئة الاجتماعية المحيطة بالمستخدمين وتتبع إيماءاتهم، كما برهن «إير فون» على إمكانية استخدامه في رصد مستويات الضوضاء، ما يُشير إلى تطبيقات أخرى ممكنة كالاعتماد عليه في الاستشعار البيئي ومراقبة التلوث الضوضائي.
ومع تقديم حوافز مناسبة للمشاركين في مثل هذه التجارب، فليس من الصعب أن تسهم هذه الطريقة في بناء خرائط دقيقة لمستويات الضوضاء على نطاقٍ أوسع مما يمكن للأساليب التقليدية تحقيقه، الأمر الذي يساعد صناع القرار على اتخاذ التدابير الملائمة لعلاج المشكلات بسرعة أكبر.