حالُنا بين عامين
نودّع اليوم العام الهجري 43 بعد 1400 بما مضى فيه من خير وعمل صالح لا يضيع عند مولانا جلّ شأنه، وما مضى فيه من مآسٍ - لا أعادها الله ولا أعاد ذكرها علينا أجمعين - ولكن علينا أن نودع الماضي بشكر الله تعالى أولاً على أن عافانا وآوانا وجعلنا مسلمين، نشكره على الصحة والأمن، نشكره على أن أكرمنا بقيادة رشيدة تحب الخير وتفعله، وتعين عليه، تقدم ما تستطيع من مكارمَ إنسانية، وما تحمله من هَمٍّ إنساني عالمي تنشُد السعادة والرخاء للجميع، وما تحرص عليه من تطور وازدهار للوطن والمواطن، ونشكره على أن جعلنا كالبنيان المرصوص في الولاء لله ولرسوله وللقيادة الرشيدة، وعلى الإخاء والتلاحم المجتمعي، ونشكره على نِعمه الظاهرة والباطنة التي لا تُحصى، نشكره سبحانه لنستجلب المزيد من الفضل الإلهي، والعطاء الرباني الذي لا تنفد خزائنه.
ومع شكرنا له سبحانه علينا استشعار تقصيرنا فيما مضى من عُمْر إذْ لم نستغله استغلالاً يرضي نفوسنا أولاً؛ حيث لم نعبد ربنا حق عبادته، ولم نؤدِّ جزيل الشكر له سبحانه بتسخير ما منَّ الله تعالى به علينا من نِعمٍ لما خُلقت لأجله، ليكون هذا الشعور حافزاً لنا على المزيد من العمل الصالح الذي يرضي ربنا جل شأنُه، فإنه مهما عملنا فإننا مقصرون، ونستشعر ذلك لئلا يدخل العُجب في قلب من رأى أنه قد أدى المفترضات واجتنب المحرمات، فإن هذا ليس كل ما هو مراد منا، بل هذا واجب يستوجب شكر الله تعالى على التوفيق لأدائه، ويرجى منه سبحانه القبول له، بل المراد أن نكون مع الله تعالى في كل حركاتنا وسكناتنا كما أمر ربنا سبحانه بقوله { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهو ما يسمى بدوام المراقبة بعدد الأنفاس، لأنه ما من نَفَس يبديه المرء إلا ولله حق فيه، ومن منَّا قام بمثل ذلك؟! إلا من كان لله تقياً وله ولياً، لذلك فإنا نودع العام ونحن وجِلون من ربنا سبحانه خشية أن لا يكون قد قبلنا فيه كما يليق بكرمه وفضله إنْ هو عامَلَنا بعدله.
وهذا الوجَل يسوقنا إلى أن نستدرك ما قصَّرنا فيه، فنتلافاه في عامنا الجديد 44 بعد الأربعمائة والألف الذي حلَّ علينا، فننوي أن نتدارك فيه تقصيرنا، ونجعل منه عامَ عملٍ دائب لله رب العالمين، ننوي أن نعبده حق عبادته، بأسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وكل جوارحنا الظاهرة والباطنة، ننوي أن يكون عامُنا الجديد خيراً مما مضى، نستعد فيه لمرضاة ربنا وصلاح حالنا ومآلنا، ننوي أن يكون عامنا الجديد مزرعةً حقيقية نجني ثمارها صلاح الحال والمآل، ثم نشمِّر عن ساعد الجد لما أمرنا الله تعالى من معرفته بقوله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وعبادته حق عبادته كما قال ربنا جل شأنه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، فإن كانت نياتنا صالحة وأتبعناها بعمل المستطاع؛ فإن الله تعالى سيحقق لنا ما نبتغيه من فضله في دنيانا وآخرتنا كما وعدنا بقوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وبهذا نكون قد اغتنمنا عمرنا وعامنا لما فيه صلاح حالنا ومآلنا.
إنَّ تجدد السنين والأعوام علينا إنما هي مسافات السفر التي نسير فيها إلى المنتهى الذي قدره الله لنا، فمِنَّا الواصل قريباً، ومنا البعيد نسبياً، لكنه سيصل لا محالة {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}، فمحطة الوصول الأخيرة في مسافة السير هي التي يجب أن نعد لها عدتها؛ لأنها دار المُقامة، فمن تزود لدار المقامة عاش في تلك الدار عيشة راضية، ومن أهمل التزود لها كانت خسارته غير متناهية، ولذلك أمرنا الله تعالى بالتزود لهذه الدار بصالح الأعمال ما دمنا متمتعين بالأعمار، فإن ذهبت عنا غُبِنَّا غبناً فاحشاً كما صح في الحديث: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»، والعاقل من يسعى لأن لا يكون من الكثير المغبون، بل من القليل العامر لعمره فيما يرضي ربَّه.
نسأل الله تعالى طول العمر وحسن العمل.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.