نيلسون مانـديلا «لا يُقهر»
لا نعرف إن كان حديثنا عن نيلسون مانديلا سيكون مدخلاً سينمائياً إلى فيلم Invictus «لا يقهر» الذي عُرِض الأسبوع الماضي في دور العرض المحلية، أو الاستعاضة عن ذلك بالحديث عن مخرجه كلينت استوود (1930)، الذي سيقودنا إلى حديث عن الأعمار والمعادلة الخارقة التي يقدمها هذا المخرج والممثل على اعتبار تقدمه في السن مفتاحاً لتحقيقه المزيد من الأفلام المحكمة والمميزة، ولعل حضوره الأكبر كان في الـ10 سنوات الأخيرة أي مع دخوله عامه الـ،70 الأمر الذي يمزج الإعجاب بالغرابة ويقلب معادلة التوهج الذي يخبو كلما تقدّمنا في العمر.
مورغان فيرمان الذي جسد شخصية الزعيم الإفريقي في هذا الفيلم صالح أيضاً لأن يكون مدخلاً لقراءة الفيلم، الذي رشحه لأوسكار أفضل ممثل في دور رئيس في الجوائز الأخيرة، دون أن يتمكن من الحصول عليه كما فعل عام ،2004 عن دوره في فيلم «فتاة المليون دولار» حين حصل على أوسكار أفضل ممثل في دور ثانٍ.
اجتماع ما تقدم سيضعنا أمام مكونات رئيسة لفيلم «اينفكتوس» الكلمة اللاتينية التي تترجم إلى «لا يقهر»، وهي مأخوذة من قصيدة كان مانديلا يقرأها في سجنه الذي امتد لأكثر من 22 سنة، ولتكون محاولات إيجاد مدخل إلى الفيلم هي الفيلم نفسه بمعنى أن شخصية استثنائية مثل مانديلا يجسدها فريمان، مانديلا يرى نفسه في أدائه كما صرح، وتحت إدارة إخراجية من استوود، ستكون نتيجته فيلم «اينفكتوس».
يمضي الفيلم المأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه لجون كارلين حوله إلى سيناريو انتوني بيكهام نحو مانديلا في أيام فوزه الأولى بانتخابات الرئاسة في جنوب إفريقيا، ولكم أن تعرفوا جيداً ما الذي يعنيه أن يكون رئيساً في ذلك البلد القائم على نظام الفصل العنصري الذي بمجرد وصول مانديلا إلى حكمه سيكون إيذاناً بعصر جديد له أن يضع حداً للنظام البائد ومعه «الأبارتيد»، ونجاحاً لنضاله ومن معه في تحقيق ما كان يبدو في ما سبق ضرباً من الجنون أو حلماً عصياً على التحقيق.
الحلم تحقق، لكن ماذا بعد تحوّل الحلم إلى الحقيقة؟ للإجابة عن ذلك سنشاهد مانديلا في أصعب مراحل حكمه، بحيث تكون هذه المرحلة أشد خطورة وحساسية من سنوات نضاله الطويلة، فإما أن يكون أو لا يكون، إما أن ينجح أو لا ينجح، مع خروج ذلك عن المفهوم الشخصي إلى ما يمثله مانديلا من آمال وآلام، وبالتالي فإن منهجه وأحلامه وأفكاره ستكون جميعاً على المحك وهو يرث بلداً غارقاً تماماً بالمشكلات، وظل التمييز العنصري مازال جاثماً بكل ثقله.
فيلم «اينفكتوس» يجد في لعبة «الركبي» تكثيفاً لكل ما تقدم، والتي تشكل بالنسبة لمانديلا كما حدث حقيقة أداة استثنائية في اختبار المشاعر الوطنية وجمعها تحت راية واحدة، بمعنى أن نجاح مانديلا في تحويل فريق «جنوب إفريقيا» الفاشل في هذه اللعبة والذي يكون رمزاً من رموز الزمن الماضي باعتباره فريقاً عنصرياً بامتياز إلى فريق ناجح يحقق معادلة التفاف الجماهير- السود والبيض - حوله سيكون خطوة أولى نحو المستقبل، وعليه فإن مانديلا كما سنراه سيشغله بقوة تحقيق ذلك، وباعتماده على فرانسوا بينار (مات ديموند) كابتن الفريق، مع إفشاله لقرار حل الفريق في الاتحاد الرياضي الذي أصبح في أغلبيته من السود.
ما تقدم سيكون فرصة سينمائية لمقاربة أفكار هذا الرجل الاستثنائي، وقدرته الخارقة على التأثير في من حوله، بدءاً من حرسه الخاص الذين سرعان ما تنضم إليهم عناصر أمنية من العرق الأبيض لم تكن بالأمس القريب إلا ممن كانوا من جلاديه وجلادي شعبه، كذلك الأمر بالنسبة للموظفين في مكتبه، وليتصف كل ما يقوم به بحس تاريخي على من يؤسس لدولة أن يتحلى به، مع وعيه بأن كل تصرفاته هي تصرفات تاريخية لها أن تعطي مثالاً على ما سيكون عليه رئيس البلد الأصلي.
فضيلة الفيلم الكبرى تكمن في تقديمه أفكار هذا الرجل في سياق حوارات محكمة، وتمرير مقدرته التاريخية على الغفران بوصفها مفتاحاً لتأسيس دولة المواطنة غير العنصرية، وليترك الأمر في نهاية الفيلم للمباراة النهائية على كأس العالم والذي يفوز بها فريق جنوب إفريقيا بعد أن تسكن فرانسوا قيم نيلسون مانديلا، وبالانتقال إلى الشارع فإن هذا النصر يدفع إلى مجاورة الأسود للأبيض واجتماعهما على الفرح تحت راية علم وفريق واحد، وهذا تماماً ما أراده مانديلا من اصراره على متابعة فريق بلاده ونحن نراه محاصراً بالمشكلات الاقتصادية والسياسية، وعلى شيء من انتقال ما يعتنقه مانديلا إلى كابتن الفريق، بما يؤكد أن الاصرار على شيء لابد أن يؤتي ثماره، فمانديلا الذي «لا يقهر» أمضى أغلب حياته في السجن ثمناً لأفكاره وأحلامه، فما الذي يمنع فرانسوا أن يأخذ بفريق إلى الفوز وأن يكون «قبطان روحه» كما يقول مانديلا مقتبساً القصيدة التي تتردد في نهاية الفيلم.