جديد سكورسيزي محيّر ويخرج عن نسق أفلامه السابقة. فوتوز.كوم

‏«جـزيـرة شـاتر».. الفيلم في رأس مجنـون‏

‏لا حد للإيهام في السينما، يمكن أن تمضي مع أحداث الفيلم حتى النهاية فإذا بها مغايرة تماماً لما كنت تتعقبه، وليكون في انتظارك في النهاية أو الربع الأخير من الفيلم ما يقلب تلك الأحداث رأساً على عقب، ويضعك مباشرة في حيرة بين الحقيقة والخيال، مع أنك تتعامل مع وسيلة رهانها الأولى الخيال، ومع ذلك تلتبس الحقيقة، حقيقة الفيلم الخاصة التي يقدمها، وهو يقول للمشاهد هذا ما حدث، ومن ثم لا أبداً! وليكون الالتباس قادماً من إملاءات الفيلم نفسه الذي يريد لك أن تقع في تلك الحيرة.

جديد مارتن سكورسيزي Shutter Island «جزيرة شاتر» المتواصل عرضه في دور العرض المحلية، يأتي مما تقدم، وليكون البحث عما تقودنا إليه الحيرة السابقة الذكر معبراً يمنح للفيلم فضاء يسعى إلى تقديمه، خصوصاً أن سكورسيزي في هذا الفيلم يخرج عن نسق أفلامه إلى حد كبير، ويتحرك في مساحة لها أن تراهن على التشويق والإثارة، لكن في انحياز تام لهما بما يجعل الفيلم من أوله إلى آخره إصراراً متواصلاً على أخذهما إلى أقسى الدرجات، من خلال حبكة الفيلم والاستثمار بصرياً بما يعزز من المشي على خط واهٍ بين الجنون واللاجنون، بين الجنون والسلامة العقلية، لدرجة التباسهما كما في قصة شهيرة لإدغار آلن بو في مجموعته القصصية «القط الأسود» تدور أحداثها في مصح عقلي، نقرأ ونقرأ، فإذا بنا نكتشف بأن من كانوا مرضى هذا المصح هم الأطباء ويديرون المصح بأنفسهم، بينما من يتلقون العلاج هم الأطباء والممرضون بعد حصول انقلاب عليهم من قبل المرضى، انقلاب له أن يكتسب مشروعيته من خلال سؤال مؤرق أو يؤرق يتمثل بالقول: ومن قال إننا أصحاء بينما الآخرين مجانين؟

مخيلة مجنونة

وعلى صعيد آخر، تكون أحداث فيلم «جزيرة شاتر» مختلقة بالكامل في البداية، فما نراه ليس إلا من نسج مخيلة مجنونة، تتبع آلية تتمثل باختلاق وقائع لم تحدث تغطي فيها على قصة وقعت حقيقة، ستكون في هذا الفيلم مؤلمة ووحشية لدرجة ما من آلية تمتلكها النفس الإنسانية إلا التغطية على ما وقع لهوله، لشدته التي من المستحيل احتمالها، لكن ودون أن يتخلى الفيلم عن هذا الرهان في النهاية فإنه يصعده أكثر، من خلال تيدي (ليوناردو دي كابريو) الذي يفارقنا ومازالت علامات استفهام كبيرة لها أن تقول لنا، على سبيل المثال، أليس في ما توهمه تيدي جزء من الحقيقة؟

لا يمكن مشاهدة فيلم سكورسيزي إلا باستعادة الفيلم الصامت «مقصورة الدكتور كاليغاري» 1920 إخراج روبرت فاين، الذي يؤرخ من خلاله لما سمي لاحقاً بسينما «الرعب»، هذا عدا مفصليته في تاريخ السينما العالمية في ريادته وارتباطه الوثيق بالتعبيرية الألمانية، إذ يبنى الفيلم كاملاً بمجسمات ورقية ولوحات تعبيرية تجسد الديكور وخلفية الأحداث، التي ستنقلب في النهاية لتكون رواية مجنون في مصح عقلي، مع بقاء الحيرة المتمثلة بكون المتخيل هو الحقيقي والعكس صحيح، لا بل إن الاسقاطات التي حملها الفيلم، قادت لاحقاً ومع ظهور النازية في ألمانيا، إلى اعتبار كاليغاري معادلاً لهتلر، الأول يضع سيزار في مقصورة ويجعله يمشي مسرنماً وهو يفعل ما يؤمر به، بينما الثاني فعل ذلك مع شعب بأكمله، بحيت جعله مسرنماً يمضي خلف أحلام قائد مجنون.

سنكون بداية في فيلم «جزيرة شاتر» مع المحقق تيدي (ليوناردو دي كابريو) في طريقه إلى جزيرة «شاتر» التي تكون مصحاً عقلياً للمجرمين والقتلة، والمحقق في طريقه لاكتشاف ما يرتكبه القائمون عليها. الأجواء أسطورية، مضخمة، وتميل إلى المبالغة في كل شيء، مباني الجزيرة، والموسيقى التصويرية، ووجوه من يعملون في تلك الجزيزة، وبالتأكيد تيدي الذي يكون مضطرباً وعصبياً طوال الوقت، مسكون بمجازر شهدها في الحرب العالمية الثانية، إنهم اليهود، بوصفهم ضحايا تلك الحرب الوحيدين، وربما من الأسهل أن تقديم مآسي الحرب من خلال ضحايا مصادق عليهم، لكن مـع تقديم انتقام لا يقل وحشيـة من النازيين.

كومة من الألغاز

سترمى قصص كثيرة أمام المحقق، ستظهر زوجته التي قتلت، والمرأة التي جاء للبحث في ملابسات اختفائها تكـون قد قتلت أولادها الثلاثة، ولتجتمع هذه القصص وغيرها في النهاية وتكون جميعها من اختراع المحقق الذي لا يكون محققاً بل مريضاً في «الجزيرة الموصدة» يقوم باختراع القصص وانتحال شخصية المحقق للهروب مما أقدم عليه، بمعنى أن كل ما نشاهده في ثلاثة أرباع الفيلم يجري في ذهن المريض، مع إيقاعنا في حيرة أن يكون المحقق حقيقة هو المريض أم أن إدارة المصح تحاول إيهامه بذلك وتحويله إلى مريض، كما سنعرف في النهاية.

كل ما تقدم سيكون ذا وقع مضاعف بعد أن رسخ في ذهن المشاهد أن الدكتور كاولي (بن كينغسلي) يقوم بتجارب على مرضاه، ومن ثم زميل تيدي المحقق تشاك (مارك رافلو) الذي يبدأ بخيانته وليكون هذا المحقق المعالج المباشر لتيدي، وعليه فإن تتبعنا لمسار التحقيقات التي يقوم بها تيدي ومن ثم خوفه من تحويله إلى مجنون من قبل إدارة المستشفى، لا يكون إلا مرحلة من مراحل علاج تيدي وحسب نظرية كاولي الذي يؤمن بدفع المريض إلى عيش أوهامه كاملة وإيصالها إلى أقصى درجة بغية تخليصه منها، لكن يبقى السؤال: كم من الحقيقة في هذه الأوهام؟ وكيف للوهم أن يبقى وهماً والحقيقة أن تكون حقيقـة؟ كيف لنا أن نعرف إن كان الخط واهياً تماماً بينهما ونحـن نعيش ونشاهد ما يدور في رأس تيدي؟

كومة من الألغاز يرميها الفيلم في وجهنا، وعدد كبير من التهويمات البصرية التي تنسج أمامنا وصولاً إلى النهاية، ولعل المشي على الخط الواهي بين الجنون والسلامة العقلية هو أخطر ما في الفيلم، خصوصاً أن سكورسيزي يستثمر كل الإمكانات البصرية لجعلنا نواصل الكوابيس حتى النهاية، وهو يمضي في هذا الفيلم يداً بيد برفقة هيتشكوك وفاين، لكن ليكون هو من يمسك بيديهما.

الأكثر مشاركة