«الوثائقي» و«القصير» في ثاني أيام «المهرجان»
كابوس عراقي بأجنحة.. و«المصعد» السعودي معطل
بين الوثائقي والقصير مضى اليوم الثاني في الدورة الثالثة من مهرجان الخليج السينمائي في دبي. الوثائقي كان عراقياً بامتياز، أول من أمس، ومن خلال فيلمين، ليس للموسيقى في الأول أن تغطي على أنين الثاني، وليس للأسى إلا أن يكون تداخلاً بينهما، وكل على طريقته التي اعتراها الكثير مما يصعد ويهبط على هدي المنفى في الأول وجرعات بؤس لا تفارق واقع الثاني، إلا إلى ما هو أشد إيلاماً وهو يرصده بحذافيره، في مساحة معاناة مترامية الأطراف.
الفيلم الأول حمل عنوان «كوكب من بابل» للمخرج فاروق داوود، الذي يوثق من خلاله الأغنية الشعبية العراقية الحديثة، ووفق بنية تحقيق «روبرتاج» يبحث في هذا الخصوص، ومن خلال المغني «كوكب» وأغنية «يا طيور الطايرة» التي كما يقدمها الفيلم تأتي بمثابة نقطة إنطلاق وارتكاز لما تبعها من أغانٍ، مع نبش منشئها وما أفضت إليه من خلال شهادات متوالية، لنا أن يستوقفنا منها ما يمكن اعتباره مرحلة نهوض ثقافية طالت كل أدوات الثقافة العراقية في ستينات القرن الماضي، وكيف أثر ظهور القصيدة الحديثة على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري في الأغنية الشعبية التي أصبحت لغتها العامية أقرب إلى الفصحى، في مسعى منها لاستثمار مكتسبات القصيدة الحديثة وحساسيتها، ولنمضِ طيلة الفيلم بين الشهادات ومن ثم «انسرتات» من مشاهد عراقية، ومن ثم استدراك أغاني كوكب في الجزء الأخير من الفيلم، وعلى شيء من التناوبية التقليدية التي احتشدت بالمعلومات والقراءات التي قدمها شهود المرحلة، إن صح الوصف، ومن ثم المصائر التي تكثفها كلمة «منفى».
هذا المنفى سيمسي عسلاً أمام فداحة ما سيقدمه فيلم العراقي عباس مطر «أحلام تبحث عن أجنحة»، الذي يشكل وثيقة كبرى عن البؤس العراقي الحالي، أو الشوارع الخلفية لبغداد، كما يقول لنا الفيلم، حيث الفقر في أعتى تجلياته، ولعل التوصيف الدائم للفقر بالمدقع سيجد ما يشرحه بصرياً في أزقة بغداد، حيث يمضي الفيلم في تعقب نماذج تمتلك كل بلاغة البؤس واقعاً، وعلى شيء من تناوب عدد كبير من البورتريهات، ولتكون الكاميرا إلى جانب سرد كل شخصية لحياتها، مسكونة في تجميع مفردات هذا البؤس من أصغرها إلى أكبرها، كاميرا منغمسة تماماً بالوحل وما يكسو أدوات هؤلاء البشر اليومية من بؤس.
رحلة طويلة مع كل ما له أن يجعلنا نرى سكان بغداد الذين يقدمهم الفيلم بوصفهم يعيشون في ظل مجاعة كبرى محاطة بشتى أنواع الأوبئة. فالفيلم يبدأ من فتى مقعد وأمه تمضي به إلى «الحسينيات» وقد مات والده، ورحلة عودتهما إلى «الخان»، حيث السكن مشترك، وكل عائلة تشغل غرفة في هذا الخان، لا تحتوي في داخلها أي شرط من شروط الحياة الكريمة، ونحن نمضي من رجل مقعد إلى امرأة عجوز وحيدة تتوسدها قطتها ولا تفارق فراشها وقد تناثرت حولها حاجياتها المكسوة بالأوساخ، ولعل هذا التنقل من شخصية إلى أخرى ومن قصة إلى ثانية سيضعنا في النهاية أمام ملف هائل للجوع والبؤس في عراق اليوم.
فيلم عباس مطر مأخوذ تماماً من الواقع الذي يصوره، وأي تعليق أو تدخل على ما نشاهده سيكون لا معنى له، مثلما هي الموسيقى التصويرية المحملة بتعبيرية فجة لا حاجة للواقع الذي يقدمه بها، كونه، أي هذا الواقع، أشد فداحة من أي عامل خارجي، وليكون الفيلم منغمساً بوفاء تام للتفاصيل اليومية للعراقيين وهم يتحركون بين غرف كالزنزانات وأزقة مجاريرها مفتوحة، إضافة إلى مصائر الفقد والقتل التي تجتمع في النهاية لتقول لنا وكصفعة مدوية ومدوخة: هذا هو عراق اليوم! هذه هي حياة العراقيين التي لا تعرفون شيئاً عنها، لا بل إن بحث الفيلم عن أمل ما، وجده في الطائرات الورقية، كان مهمة شاقة.
بالانتقال إلى مسابقة الأفلام القصيرة، فإنها في جانب منها كانت على مقربة من «الاسكتشات» التي تتمركز حول فكرة واحدة لها أن تقدم مقولة ما على هدي واقع اجتماعي، لنا أن نجد ذلك في الفيلم الإماراتي «بلادي» لجمال سالم حيث البنية السكانية التي يصطدم بها الباحثون عن عمل من شباب الإمارات، تكون نابذة لهم بما يقود إلى مصائر لا ينفع فيها إلا العبث، بينما يأتي حمزة طرزان في «ديون» إلى ديون مستحقة متعلقة بالمجتمع السعودي وتباين الأفكار والتوجهات وتصارعها على مائدة حوارية وموقع تصوير واحد لا يفارق النقاشات الموجزة والمكثفة التي تضيء ما تضيء من اختلافات، بينما قارب مقداد الكوت في «شنب» الذكورية الفجة عبر ملاحقة هذا الشنب الذي يخلو منه وجه شخصيته الرئيسة، وهو الوحيد الذي يكون كذلك من بين كل المحيطين به، ولتجتمع هذه الأفلام على تسليط ضوء سريع وخاطف على ملمح كما لو أنها «بقعة ضوء» لكن معروضة على الشاشة الكبيرة.
يستوقفنا بقوة الفيلم العراقي الكردي «اسكتي.. هذا عيب» لحسين حسن، حيث يمكن الحديث هنا عن بنية سينمائية حقيقية ممسكة بخيوط سردها المكثف عبر خطوط درامية تتولى الصورة وحركيتها العالية أن تقدم جرائم الشرف في الماضي والحاضر، والنفاق الذكوري الذي يتحرك بينهما في إيقاع جميل حقاً، وعبر الحب الذي يكفي لرقصة عائشة الموجزة أن تعبر عنها، كما لقبلتها السريعة التي تطبعها وتهرب، أن تكون انقلاباً في الأحداث المتواترة أصلاً.
فيلم «تجربة في الطابق السابع» لفهد الأسطا، له أن يضعنا أمام ترقب ما، والحديث هنا عن مجموعة «تلاشي» السعودية التي قدمت في الدورة الماضية مجموعة أفلام احتكمت على قدرة كبيرة من الجرأة في الطرح، الأمر الذي كان ينسينا أي شيء أمام أهمية ما يقال بخصوص الواقع السعودي، وقدرة هؤلاء المخرجين الشباب على تقديم أفلام مسكونة بهذا الواقع مع انفتاحها على السخرية، الأداة الأكثر نجاحاً عند الاصطدام مع أي واقع.
فهد الأسطا في تجربته الأولى يستعيد أفلام الشباب، من خلال حيلة أو حل سينمائي لا يخرج من المصعد إلا إلى الشقة في هيمنة للمشاهد الداخلية، ولتكون تجربته فيلماً عن أربعة أفلام لشباب «تلاشى»، لكن كل الخوف أن يكون الحصار المضروب على أحلام هؤلاء الشباب الموهوبين مماثلاً لمن يعلق بالمصعد، أو ذاك الأعمى الذي ينتظر المصعد بينما وضعت عليه ورقة مكتوب عليها «المصعد معطل» كما نشاهد في الفيلم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news