الخيارات واضحة.. وما من تضحيات
«رجل يستحضر الماضي» وسعــــفة «كان»
لم تكن مهمة لجنة التحكيم ورئيسها تيم بورتون في الدورة الثالثة والستين من مهرجان كان السينمائي الذي اختتم الاحد الماضي، مهمة مستحيلة، ولا تستدعي منها الغرق في حيرة أو تردد، وبالتالي اللجوء إلى اجراءات صارمة أو التضحية بفيلم مقابل آخر، لا بل إن الجوائز والكيفية التي وزعت على الأفلام كانت بمنتهى الدقة، لأسباب كثيرة، أولها أن هذه الدورة ومع كل ما احتكمت عليه من أسماء كبيرة في عالم «الفن السابع» لم تكن حمالة خروقات ولا أفلاما عظيمة ترسخ في الذاكرة، بل إن أفلاماً كثيرة اكتسبت مشروعيتها من اسم صاحبها قبل أي اعتبار آخر، مثلما هي الحال مع عباس كياروستامي وكين لوتش وآخرين، وكان علينا أولاً وأخيراً انتظار نهاية هذه الدورة لإطلاق هذا الحكم، الذي كان يزداد رسوخاً يوماً بعد يوم أثناء عروض المسابقة الرسمية.
فيلم التايلاندي أبيشاتبونغ ويراستاكول Uncle Boonmee Who Can Recall His Past Lives (العم بونمي الذي يستطيع استحضار الماضي) الفائز بسعفة مهرجان كان الذهبية خيار جريء لا شك، مع التأكيد على انحيازي المطلق له، فالفيلم أولاً وأخيراً يقدم مقترحاً جمالياً مغايراً، جانحاً نحو استحضار أساليب سرد خاصة، قادني وبعد مشاهدته الخميس الماضي إلى أن يتلبسني وكائناته وعوالمه تتجول وتستحضر مراراً وهو وكنقطة ارتكاز رئيسة يقدم شخصية العم بونمي، الذي يعيش في شمال غرب تايلاند، ويعايش الحاضر والماضي معاً جنباً إلى جنب، البشر الذين ماتوا ورحلوا مع من لايزالون على قيد الحياة، ابنه المتوفى وقد تحول إلى كائن أسطوري أشبه بالغوريلا بعيون حمراء تلمع في الليل، زوجته المتوفاة، أخته المتوارية، وليحدث هذا الاستحضار للماضي رموزاً ودلالات، سنكون مشغولين عنها بكيفية بنائها، عوالمها، هذا «المنولوج» المدهش الذي يردده العم بونمي حين يمضي برفقة البشر الأموات والأحياء إلى مغارة، ويقول «أنا نائم لكن عيناي مفتوحتان»، ولتحضر فصائل مسلحة، ولتظهر الكائنات الخرافية التي تلبست ابنه مجدداً، تحيط به من كل جانب وعيونها حمراء في الليل، هذه الكائنات ستظهر وهي تتوسط الجنود في صورهم الفوتوغرافية، سيقول بونمي الذي يعاني فشلاً كلويً «لقد أصبت بهذا المرض عقابا على العدد الكبير من الشيوعيين الذين قتلتهم، أو البعوض الذي أقتل منه العشرات يومياً»، عبارة تقول ما تقول بخصوص صراعات شهدتها تايلاند، لن نعرف ماهيتها طالما أننا لسنا بباحثين في تاريخ تايلاند.
وحين يموت بونمي، وتحضر شخصية ذلك الكاهن البوذي، يبدو أن استحضار شخصيات الماضي أمر انتقل إلى أخت بونمي، ولنتساءل: هل هذا الكاهن هو بونمي في شبابه؟
يراستاكول الذي ظهر في «كان» مع الممثلة مونغلبرا سيرت في فيلمه ولابا يقول إن شخصية بونمي حقيقية، وإنه كان يعيش الماضي والحاضر سوية، الماضي الذي سيكون موغلا في القدم، ونحن نرى تلك الأميرة وهو تغوي خادمها، ومن ثم تسلم نفسها للبحيرة وليبادلها الحب السمك بدل البشر.
مكافأة التجريب
فيلم «العم بونمي الذي يستطيع استحضار الماضي» يتحرك وبإيقاع بطيء بين مستويين زمنيين، وعبر مفردات بصرية مفتوحة على ثراء بصري خاص، ستكون الكتابة عنه لا شيء أمام مشاهدته.
وبالعودة إلى حصوله على السعفة الذهبية، فإن مهرجان «كان» يكافئ التجريب، الانفتاح على مساحات عذرية في السينما تأتي من عوالم آسيوية مثل تايلاند، وفي استحضار سينمائي عذب بصريا وسرديا للمكان النابع منه وتشابك التاريخ الشخصي بالوطني، وليس يراستاكول بمخرج مبتدئ، ففيلمه Blissfully Yours حصل على جائزة مسابقة «نظرة ما» عام .2002
إنسانية
الجائزة الكبرى التي كانت من نصيب الفيلم الفرنسي كسفييه بوفوا «عن الآلهة والانسان»، يمكن أن تجتمع عليه خيارات كثيرة أخرى، لكن يبدو أن بورتون انحاز للجرعة الانسانية التي يقدمها الفيلم عن الرهبان السبعة الذين قتلوا في جبال الجزائر، والبناء الشائك والجميل لعلاقتنا معهم كما قدموا إلينا، وعلاقتهم بالدين الاسلامي وسكان القرية الجزائرية التي يوجد ديرهم فيها، جائزة يمكن لفيلم أنارتيو «جميل» أن يستحقها بجدارة، والذي حصل بطله خافيير بارندوم عن دوره فيه على جائزة أفضل ممثل، وربما تركيز أناريتو على شخصية واحدة في هذا الفيلم وأداء بارندوم الآثر جعلها مستحقة بالتأكيد، ولتأتي مناصفة مع الايطالي ايليو جيرمانو عن دوره في فيلم atiV artsoN aL (حياتنا)، لا بل إن الأمر يمتد بنا للقول إن دورة «كان» هذا العام دورة تمثيل بامتياز، بمعنى أن أغلب الأفلام هي أفلام آمنة ومهادنة تحمل على الدوام شخصية رئيسة يؤديها ممثل بأداء مميز، بما يقودنا إلى جولييت بينوش التي حصلت على جائزة أفضل ممثلة في فيلم عباس كياروستامي «نسخة طبق الأصل»، ليكون الفيلم بينوش، وبينوش الفيلم، الأمر نفسه يمتد إلى الممثلة يون شانغهي في الفيلم الكوري «شِعر» الذي حصل على جائزة أفضل سيناريو لمخرجه وكاتبه لي شانغ دونغ، وهو يمضي بنا وبصحبة الشعر الذي تحاول ميغا كتابته من عالم إلى آخر، وكل ما تسعى إليه حماية حفيدها ونحن نشهد اجتياح «الزهايمر» لها.
نمضي خلف الجوائز الأخرى، وقد استقرت جائزة أفضل إخراج لدى الفرنسي ماثيو أميرليك عن فيلمه On Tour (الجولة) في تجربته الإخراجية الأولى ونحن نعرفه ممثلاً، وهو يتنقل في فرنسا برفقة راقصات تعرٍ، لا بل إن اميرليك سيدفعنا للقول إن جوائز هذا العام فرنسية بامتياز متوزعة بين الجائزة الكبرى وأفضل إخراج وأفضل ممثلة.
«رجل الصراخ»
تبقى الإشارة إلى فيلم التشادي محمد صالح هارون Screaming Man (رجل الصراخ) الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة، والذي سبق وأشرت إليه بوصفه واحداً من أهم الأفلام التي شوهدت في هذه الدورة الضعيفة نسبياً، ولعل علي هنا الإشارة إلى أن فيلم «هارون» وإلى جانبه فيلم «أناريتو»، ومن ثم الفيلم الكوري «شعر»، وفيلم الانجليزي مايك لي «عام آخر» الذي خرج خالي الوفاض، مثله مثل فيلم رشيد بوشارب «خارج عن القانون»، وفيلم «العم بونمي الذي يستطيع استحضار الماضي»، هي أفضل الأفلام التي شاهدتها في هذه الدورة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news