تاو زاو تتجول في أرجاء الفيلم بوصفها الملمح الروائي. آوت ناو

«أتمنى أن أعرف».. مــاذا يحدث في الصين

يمكن للصين أن تكون شاغل العالم، لها أن تتسرب إلى كل شيء، يكفي أن تنظر حولك من سلع أو أدوات يومية للتعرف إلى أنك محاصر بها يومياً، وعبارة «صنع في الصين» لها أن تلتصق في كل ما تستخدمه، ابحث عن بلد الصنع وسترى.

لكن السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي يحدث في هذا البلد المترامي؟ بلد المليار وأكثر، وما الذي تغيّر؟ وما الذي بقي من الثورة الثقافية وماو تسي تونغ؟

أسئلة مفصلية لها أن تدفع للفضول، وفي كل مكان ثمة من يقول لك إنها القوة العالمية الكبرى القادمة، ولعل الغزو على صعيد الصناعات، وقتل الماركات ومناصرة المقلد، سيكون متبوعاً بغزو من نوع آخر، لنا أن نتلمس ملامحه في نواحٍ عدة، لن تكون السينما بمعزل عنه، ونحن نشاهد كل تلك الأفلام ذات الميزانيات الضخمة.

لن يكون حديثنا هنا عن السينما الصينية التجارية وأولئك الفرسان الذين يطيرون في الهواء، بل سنمضي مع مخرج لنا أن نشاهد له مع كل دورة في مهرجان كان جديداً، يضعنا مباشرة أمام الصين ونبشها تاريخياً، وعلى شيء يجعل نبشه السينمائي محورياً في التوثيق لما يحصل في الصين حالياً، وفي تعقب تاريخي عميق لما له أن يسمى بامتياز نقاط الانعطاف الكبرى في هذا البلد.

المخرج هو زانغ كي جيا، وليأتي جديده الوثائقي ــ وعلينا أن نؤكد على الوثائقي ــ كمقاربة تاريخية لمدينة لها أن تكون القلب النابض للصين الحديثة ألا وهي شنغهاي، والتي يرصدها في فيلم يحمل عنوان I wish I Knew (أتمنى أن أعرف)، وفي اتباع لأسلوبه الأثير وللدقة في حرص على شريكته الممثلة تاو زاو التي تتجول في أرجاء الفيلم بوصفها الملمح الروائي في الفيلم، الخيط الواهي الذي يحرص أن يمر في ثنايا الفيلم.

سيكون التوثيق في هذا الفيلم متمركزاً حول مصائر كثيرة طالت سكان شنغهاي بعد الثورة الثقافية عام ،1949 وبالتركيز على الطبقة الأرستقراطية والمتوسطة، ومعها الفنانون السينمائيون والمسرحيون، وليكون الفيلم كما عادة جيا مفتوحاً على مصراعيه أمام أحاديث لا تنتهي للأشخاص الذين يقدمهم، وكل يروي قصته مع هذه المدينة وكيف هجرها ومن ثم عاد إليها ولتكون تاو زاو مجسداً أو معادلاً تمثيلاً للعودة والمصائر. ما يأسر في هذا الفيلم، وكما تعودت من كي جيا، هو المشهدية الرائعة التي يحملها الفيلم، كيف لهذه الكاميرا أن تلتقط روح المدينة ونهرها، ماضيها وحاضرها، مع تداخل ذلك مع أفلام انتجت قبل الثورة الثقافية، ونحن نرى الممثلات، وقد بلغن أواخر العمر وهن يستعدن شنغهاي ما قبل الثورة، ومعها مادة أرشيفية لأفلامهن.

الأسلوب نفسه الذي عودنا عليه كي جيا في أفلامه الوثائقية، الأسلوب الذي يدعونا دائماً للتوقف عنده وكل ما له من خصوصية، وإن كان هذا المخرج لا يبالي كثيراً في تكثيف الأحاديث التي تكون مترامية في أفلامه، لكن لكل فيلم من أفلامه أن يمنحنا وثيقة كبرى بصرياً وتاريخياً للصين الحديثة.

وهنا لابد لنا أن نعود إلى فيلم سابق له كان بعنوان «مدينة 24» ،2008 الذي سبق لي وتناوله وبعنوان يسعى للتأكيد على ظلم دولة البروليتاريا للبروليتاريا الأشد مضاضة ربما من الدول الرأسمالية، على مبدأ بيت الشعر «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند»، حينها قدم شهادات عمال وأجيال كاملة عاشت وأحبت وتزوجت وأنجبت في كنف معمل والمدينة المحيطة به. حيث تطالعنا أيضاً شهادات كثيرة في تنويعات مشهدية تتناغم وتنويعات قصص أولئك العمال والعاملات، والتي تجنح إلى حياتهم العادية التي لا تنفصل عن المعمل، إلى أن يصل بنا إلى لحظة يدعنا نشاهد فيها كيف يجري هدم ذلك المعمل لإقامة مشروع 24 مدينة على أنقاضه، المشهد الذي يترافق مع النشيد الأممي، كما ليقول لنا مضت تلك المرحلة، الصين لا علاقة لها بالشيوعية الآن، وليؤكد لنا ذلك من خلال شهادة ابنة عاملين في ذاك المصنع والمصير المفجع الذي طالهما بعد هدم المعمل، ونمط العيش الذي تفرضه الأبنية المقامة مكانه.

فيلم «24 مدينة» له أن يقول وبفنية عالية، وتقطيع الشهادات وفق مقاطع شعرية، إن ظلم الطبقة العاملة في الصين جاء على يد دولة العمال والفلاحين، بما يشبه ممارسات الشركات الرأسمالية، وإن كان لنا أن نقوّل الفيلم أكثر فإنه هجائية لما يعرف بـ«اقتصاد السوق الاجتماعي»، وأن اعتبار الصين دولة شيوعية كذبة كبيرة، وليكون في جديده «أتمنى لو أعرف» مماثلاً تماماً من حيث الحساسية، لكن هنا النبش يعود إلى الثورة الثقافية ما قبلها وما بعدها وصولاً إلى الراهن.

الأكثر مشاركة