عن جديد إيناريتو وبرشلونة

«جميل» حتى الرمق الأخير

دور خافيير بارديم في الفيلم أوصله إلى سعفة «كان» الذهبية. إي.بي.أيه

يعدنا المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، دائماً بدراما تحمل خصائص تجعلها عابرة للقارات على الدوام، ومتحركة ضمن خطوط تتداخل فيها اللغات والأعراق والأجناس، بما يجعله وفياً لما صار إليه العالم، حيث الهجرات متواصلة ومتبادلة بين أصقاع العالم، والفقر داهم لا يميز أحداً، وكل شيء في هذا العالم متصل ومنفصل.

مع هذا الواقع يبدو كل حديث عن صفاء العرق وخصائص أقوام عن أخرى مصدر صدام وغباء مطبق، وكل ما يتقرر في هذا العالم يأتي من بنية اقتصادية ستكون الهجرات مبنية على الدوام وفقاً لحركة رأس المال.

مع جديد إيناريتو BUITIFUL (جميل) لن يكون الفيلم مدعاة للتحرك بين القارات، فقد صار ممكناً،منذ زمن، أن تجد في حي في عاصمة أوروبية العالم مختزلاً ومكثفاً، لا بل إن الالتصاق به سيستحضر أعراقاً مختلفة في ظروف مغايرة لبيئتها، ويمكن لذلك أن تعثر عليه بامتياز في دبي، حيث تتجاور وتتمازج كل هذه الجنسيات والأعراق في نسق مأخوذ بالعيش والمتطلبات الاقتصادية.

اتفاق ضمني

معرفة ما تقدم تقودنا مباشرة إلى فيلم إيناريتو، ومن البداية سيعقد معنا الفيلم اتفاقاً ضمنياً يقول لنا إنه ليس بشبيه بفيلم إيناريتو الأول «الحب كلب» ،2000 فما من مشهد كلب نازف في سيارة تمشي بسرعة جنونية هرباً من مصير لنا أن نتعرف إليه تباعاً مع مصائر كثيرة أخرى، كما أن الحياة لن تعادل فقط «21 غراماً» عنوان فيلمه عام ،2003 أي الوزن الذي يفقده الإنسان لدى موته بما يعادل كل ما عاشه من ذكريات ومشاهدات ولذات، وبالتأكيد فإن «بابل» 2006 سيحضر في ملمح من ملامحه لكن من دون أن تكون اللغات متشابكة مثل المصائر، ونحن نتنقل بين المغرب وأميركا والمكسيك واليابان.

جديد السينمائي المكسيكي يأتي من برشلونة هذه المرة، في اللقطة الافتتاحية من الفيلم، سنرى أوغزبال (خافيير بارديم) يخرج خاتمه من إصبعه ليضعه في إصبع ابنته، ونحن لا نرى إلا أيادي مرفوعة، ثم يمضي في غابة مغمورة بالثلوج تطالعه فيها بومة ميتة، ويسمع نداءً سيلبّيه بالتأكيد.

شخصية واحدة

سيكتفي إيناريتو هذه المرة بشخصية واحدة ستكون مركز ثقل الفيلم، وكل المصائر الأخرى التي سنطالعها ستكون وفقاً لحياة هذه الشخصية وتشابكها مع الآخرين، إنه أوغزبال أو خافيير بارديم كونه جسد هذه الشخصية وإيناريتو وطيلة كتابته الفيلم لم يكن بارديم إلا تلك الشخصية والعكس صحيح، ولينال بارديم عن دوره جائزة التمثيل في الدورة 63 من مهرجان «كان» السينمائي.

في هذا الفيلم ينفصل إيناريتو عن شريكه السينمائي غيليرمو أرياغا الذي كتب له سيناريوهات أفلامه الثلاثة السابقة الذكر، ويمضي هذه المرة كتابة وإخراجاً في تتبع حياة أوغزبال الذي يمارس حياته بوصفه أباً ومطلقاً، محاصراً بالمرض الذي سرعان ما يكتشفه والذي يكون سرطان البروستات، وعلى صعيد شخصي ستكون أزماته حاضرة من علاقته مع زوجته السابقة القادرة على تخريب كل شيء وهي تسأله على الدوام أن يسامحها فيفعل، ثم تعود إلى الأسوأ وهكذا، وهو يسعى بكل ما أوتي من إنسانية وصبر أن يتواصل معها من أجل أبنائه الذين سيدفعون الثمن الأكبر من جراء تصرفات الأم غير المسؤولة، وليسعى في الوقت نفسه إلى أن يكون أباً جيداً.

رهان رئيس

على صعيد آخر، وفي رهان رئيس للفيلم، تحضر البيئة المحيطة بأوغزبال حيث يكون هذا الأخير قد نشأ وترعرع في حي المهاجرين في برشلونة، وفي مجاورة دائمة مع أعراق مختلفة من الصينيين والعرب والإندونيسيين، وهو نفسه متورط في استيراد العمالة التي ستكون غير شرعية ولتكون الأكثرية للصينيين.

من هنا ستهب الدراما الكبرى في الفيلم، ونحن نرى كيف تتعامل الشرطة الإسبانية بعنف ووحشية مع باعة الطرق الأفارقة، وكيف يُرحّل صديقه إلى إثيوبيا، بينما يأخذ زوجة ذلك الصديق وابنه ليعيشا معه، فتمسي سنداً له أكثر مما هو بالنسبة إليها، حين تتحول إلى ممرضة ترعاه وهو يحتضر. سيتداخل مصير أوغزبال الشخصي مع مصائر المهاجرين، وسيطال التصعيد كل المصائر، ويبقى اختناق العمال الصينيين الذين يشرف عليهم، ذروة أحداث الفيلم والمنعطف الأكبر. سيحتضر أوغزبال بعدما شهد بأم عينيه كيف مات كل الصينيين في القبو، حيث كانوا ينامون نساءً ورجالاً وأطفالاً، والسبب مدفأة تعمل على الغاز اشتراها لأنها الأرخص، وسيموتون بسببها جميعاً وهم نيام مختنقين بالغاز.

أوغزبال يحتضر، فيما البحر لا يتوقف عن لفظ جثث المهاجرين إلى الشاطئ. مصائر بشر كثر، وخارطة حية وداكنة لمن يلقون بأنفسهم في أحضان أوروبا، ومعهم مصير رجل بمفرده نعود معه في النهاية، حيث بدأ الفيلم، إلى الغابة المغطاة بالثلوج والنداء.. نداء الموت.

«جميل» العنوان الذي اختاره إيناريتو لفيلمه ليس إلا الكلمة التي يسعى أوغزبال لتعليم ابنه إياها، ولعلها مكتوبة خطأ وفقاً لتهجئته لها، من دون أن تقول لنا هل هذه الحياة جميلة حقاً! المفارقة ربما، الانفصال بين الجمال والواقع كما للفيلم أن يجيب ربما.

تويتر