استخبــارات تطارد «فاضح» الاحتلال الأميركي
تقرأ خبراً في صحيفة فتحسب أنه تلخيص لفيلم، ويختلط الأمر أحياناً فتحسب الخبر سيناريو لفيلم مقبل، أو لفيلم شاهدت مثله الكثير، خصوصاً إن كان الأمر متعلقاً بأخبار استخباراتية وصفقات تبادل رهائن وما إلى هنالك مما يعدنا بفيلم تشويق و«أكشن».
كما لا يخفى على أحد قصص السينما لا تهبط من الفضاء، ونحن نتكلم هنا عن أفلام التشويق والإثارة التجارية، بما يطال الخيال العلمي نفسه الذي لن يكون بحال من الأحوال تخيلاً معلقاً بين السماء والأرض بلا أي سند، فمجرد تخيل شيء نمضي به إلى المستقبل فإنه - أي هذا المستقبل - يحمل الكثير من ملامح الحاضر وما يحمله من عناصر تؤدي إلى خيال من نوع خاص، لذلك علينا أن نشير هنا إلى أن المنتج الإبداعي لدول العالم الثالث سيخلو من الخيال العلمي، فهنا الواقع سيكون حاضراً بقوة، وسيبدو الخيال ترفاً غير متوافر، وللواقع في هذا العالم أن يكون أشد خيالاً من الخيال، كأن نشهد تسريباً لشريط فيديو مأخوذ عن طائرة هيلكوبتر أميركية تقوم بقتل 12 عراقياً، كما لو أننا أمام لعبة فيديو رقمية، لا بل إن منطق من يطلق النار على هؤلاء المدنيين الأبرياء والعزل الذين يحاولون مساعدة مصابين، هو منطق من تربى على هذه الألعاب، إنه يتعامل معهم بوصفهم كائنات رقمية، وعليه أن يقتل كل من يتحرك على سطح الشاشة التي أمامه، والتي تظهر عليها مناجاتهم له وبينهم صحافي ومصور وغير ذلك مما يفترض حتى في الألعاب الرقمية عدم قتلهم.
استعادة ما تقدم على صلة وثيقة بموقع إلكتروني اسمه «ويكي ليكس»، وحديثنا عن أن ما نقرأه في صحيفة قد يشعرنا بأن الخبر ليس إلا سيناريو فيلم، متأت من صاحب هذا الموقع الاسترالي جوليان أسّانغ «فاضح» الاحتلال الأميركي في العراق، الذي تطارده جهات استخبارتية عدة حول العالم، على رأسها وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه» لأنه وبعد تسريبه ذاك الفيلم عن المجزرة التي أقدم عليها طيار أميركي في العراق، فإنه - أي أسانغ - يمتلك ما يقارب ربع مليون وثيقة سرية سطا عليها إلكترونيًا وبوسائل أخرى من «البنتاغون» ووزارة الخارجية الأميركية والوكالة المركزية، ما يعتبر تهديداً حقيقياً للأمن القومي الأميركي، لأن هذه الوثائق تحتوي مصادر استخباراتية للمخابرات الأميركية وآلية تجميعها المعلومات، إضافة إلى ما تتلقاه المخابرات الأميركية من معلومات ومساعدات من أجهزة الأمن حول العالم، إضافة إلى محاضر اجتماعات سرية، ومعطيات تضيء كيفية اتخاذ القرار داخل وزارة الخارجية الأميركية واتصالات حساسة، كما يورد الخبر مع اسرائيل متعلقة بأنشطة «الموساد».
حسناً هذا هو الخبر إذن، ولكم أن تتخيلوا كيف تجري الآن ملاحقة جوليان أسّانغ المتواري، الذي يتوعد السلطات الأميريكة بنشر ما لديه، ولعل مجرد تخيل تلك المطاردة لهذا الشخص ستشكل سيناريو لفيلم مشوّق ومليء بالمغامرات والمفارقات، ولعل ما يحصل على أرض الواقع سيكون بالتأكيد أشد خطورة وتشويقاً.
طبعاً يمكن استثمار القصة السينمائية بالطريقة التي يرغب فيها صناع الفيلم ووفق إملاءات لها ما تقول، كأن يكون أسانغ مرتبطاً بتنظيم القاعدة، فيمسي الفيلم عن الإرهاب المعولم، وبما أنه ليس هناك من حرب باردة ولا اتحاد سوفييتي، فيمكن ربط الأمر بالتجسس الروسي ونحن نسمع ونقرأ عن صفقات تبادل الجواسيس بين روسيا وأميركا.
كما أن السيناريو قد يجعل من أسّانغ «سوبر هيرو» سرعان ما ينجو ممن يطاردونه ويقوم بنشر الحقيقة وإحداث انقلاب جذري في السياسة الأميركية، ويكون ما ينشره أسانغ بمثابة وثيقة فضائحية لممارسات دنيئة وغير أخلاقية لا يرضى عنها أحد «الشرفاء الأشاوس» في البيت الأبيض أو أي جهة حكومية في الولايات المتحدة. ومن حهة أخرى يمكن تصوير أسانغ شريراً يحمل الكثير من النيات التدميرية، إذ ينتهي الفيلم بقتله على يدي عميل استخبارات مفتول العضلات أو وسيم له أن يكون قاهر قلوب النساء، قبل أن يحقق أسانغ مراده الذي سيكون إن تحقق إيذانا بتدمير العالم، وما إلى هنالك مما شاهدناه وسنشاهده في آلاف الأفلام، إذ يمسي الواقع في خدمة الأغراض المراد تحقيقها، ولتبقى المصائر دائمًا في يد صناع الفيلم بعيداً عن حقيقة ما حدث أو قريباً منه لا فرق. المهم جرعة تشويق سرعان ما تحدث أثرها وتختفي.