البوسنة كما تراها ياسميلا زبانيتش
سراييفو.. التطرف وأشباح الحرب
المفاصل التاريخية في تاريخ شعب من الشعوب لها أن تكون حاضرة في التفاصيل اليومية، في العلاقات بين البشر، في الفرح والحزن، وكل ما له أن يؤسس لحياة كلما هربت من ماضيها كلما لاحقها أكثر، بما يستدعي الحاضر وفق املاءات ذلك الماضي، خصوصاً في المآسي والكوارث والمجازر، التي ستلقي بظلالها وأشباحها في شتى نواحي الحياة، وبالتأكيد لن تكون الحياة على ما هي عليه بعد وقوع مجزرة أو كارثة.
هذه المقدمة تطمح للتمهيد لسينما اللمخرجة البوسنية ياسميلا زبانيتش، التي لها أن تكون قادمة تماماً من الحياة ما بعد المجزرة في محاولة لاختزال ما تشكله أفلامها من توثيق للحياة البوسنية المعاصرة في ما بعد حرب البلقان وتلك المجازر التي طالت الشعب البوسني على يد الصرب، وبالتأكيد البوسنة بعد انفراط الاتحاد اليوغسلافي وتشظية تلك الدولة التي أسس لها جوزيف تيتو، وليكون مهمة الفن هنا حاضرة بوصفه توثيقاً موازياً لا يطمح للتأريخ بل إلى تقديم رواية موازية للرواية التاريخية، والمقصود بذلك حال البشر أثناء وبعد ما حل بالبوسنة، كيف صارت عليه العلاقات الاجتماعية وما الجديد الذي طرأ وما القديم الذي انقضى وما إلى هنالك مما يرصد حال البشر، وليس توثيق أعداد القتلى والضحايا، أو وقائع المعارك، بل الخوف والهلع والجوع والحب وما إلى هنالك مما له أن يكون من صميم انسانية الإنسان.
ياسميلا زبانيتش وفي هذا السياق تقدم لنا ومن خلال فيلمين مميزين، بوسنة ما بعد الحرب، وشبح ما حل بها حاضر بقوة، وليبق السؤال كيف؟ ولعل استعراض هذين الفيلمين سيكون بمثابة إجابة عن سؤال كهذا، وتوضيحاً لما يحمله كل منهما.
في فيلمها المعنون «غربافيتشا» (اسم ضاحية من ضواحي سراييفو) الذي نال جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين ،2006 قدمت زبانيتش قصة إسما المرأة التي نتعقب حياتها ومسعاها لكسب رزقها في ظل ظروف اقتصادية صعبة، تضطرها للعمل كنادلة في نادٍ ليلي، وكل ما تسعى إليه هو توفير احتياجات ابنتها الوحيدة سارا، والنجاح بتوفير المبلغ الذي يكفل لها المشاركة في رحلة مدرسية.
ولتمضي حكاية إسما تحت ضغوط متواصلة تأتيها من كل جانب، وتعثرها في كل ما تقوم به، في ما ذلك علاقتها مع ابنتها الوحيدة، التي يشكل ما كان عليه والدها الغائب مصدر فخر كبيراً لها، كونه كما تقول لها أمها إسما كان جندياً، وقد نال شرف الشهادة، الأمر الذي يقابل في المدرسة بتبجيل واحترام، كما أنها أي سارا تسأل دائماً أمها إسما أن تحضر لها وثيقة تؤكد فيها شهادة والدها حتى تتمكن من نيل رسوم مخفضة بالنسبة للرحلة التي تسعى القيام بها في المدرسة وغير ذلك من تسهيلات تشمل أبناء الشهداء.
ما يؤرق إسما أكثر من الظاهر سر يمضي معها، يسكنها وله أن يخرج منها في لحظة منفلتة من كل شيء تأتي تحت وطأة تهديد ابنتها لها بمسدس تأخذه من صديق لها في المدرسة وهي تسألها أن تخبرها حقيقة ما كان عليه والدها، وحينها فقط تقول لها بأنها لا تعرفه، إنه واحد من الجنود الصرب الذين تناوبوا على اغتصابها أثناء الحرب، ولتتبع ذلك بسرد مشاعرها في لقطة طويلة مترافقة بموال بوسني حزين للنساء الذين كانت تلتقي بهم في مركز لرعاية نساء ما بعد الحرب، لقطة طويلة تمر على وجوه نساء كثيرات، إلى أن تصل إسما وهي تنتحب وتبدأ بسرد أحاسيسها ومشاعرها وعجزها عن إجهاض ما حملته في أحشائها، والذي يترافق بقيام ابنتها في مشهد منفصل بحلاقة كامل شعر رأسها.
القصة المؤلمة التي قدمتها زبانيتش في «غربافيتشا» ستكون رصداً محملاً بالكثير لسراييفو ما بعد الحرب مباشرة، وعبر مصير إسما الذي يحتمل بقوة أن يكون مجازاً بليغاً لذلك، له أن يتولى قول كل شيء في سياق سرد غير مشغول إلا بتقديم حكاية إسما كاملة وبأكبر قدر من الحساسية والوفاء لقصتها الشخصية التي تختزل معاناة الآلاف من النساء البوسنيات.
في جديدها «على المعبر» 2010 تمضي زبانيتش وراء ملامح أخرى من المشهد البوسني المعاصر، ومرة أخرى عبر قصة مشرعة على قول الكثير في هذا الخصوص، حيث ستكون كلمة «تطرف» الكلمة المفتاح في هذا الفيلم، أو المشكل الرئيس والطارئ ربما على العلاقات الاجتماعية في بوسنة ما بعد الحرب، وعلى شيء يجعل من الفيلم في أحيان كثيرة تنقلاً بين تطرفين، ومن ثم اصطداماً بينهما، وبكلمات أخرى نمطي عيش متصارعين في سراييفو المعاصرة.
ما تقدم يأتي في فيلم «على المعبر» من خلال علاقة الحب التي تجمع لونا بعمار، لونا مضيفة طيران، بينما يعمل عمار في برج مراقبة المطار، إنهما متناغمان، يعيشان بفرح وحب، والعامل الاقتصادي هنا لا يضغط عليها كما هو حال إسما في «غربافيتشا»، لكن عمار الذي يوقف عن عمله بسبب كحوليته سرعان ما سيلتقي بأحد رفاقه في الحرب، هذا الرفيق سيمضي بعمار إلى الحركات الجهادية، وسنشهد تغيرات عمار التي ستقوده إلى طاعة عمياء للقائمين على تلك الحركات، فعمار سيجد خلاصه معهم، وسيسعى بكل ما يستطيع أن ينقل تغيراته لتطال لونا، التي ترفض كل ما صار إليه عمار، ومساعيه لفرض إيقاع ومظاهر وعادات جديدة على حياة لونا أيضاً، وقد أصبح بالتأكيد رجلاً آخر لا علاقة له بعمار السابق، الأمر الذي يفضي بهما إلى الانفصال بالنهاية، ولتواصل لونا حياتها السابقة لكن بتطرف أكبر أيضاً.
إنها الحرب مجدداً ستكون العامل الخفي في كل ما نشهده في فيلم «على المعبر»، ضياع البشر، تفتت العلاقات، تعرضها لمؤثرات وعوامل وليدة الحرب التي ترمي بثقلها على الجميع، كما لو أنها العنصر الغائب والحاضر في آن معاً، فعمار ولونا أيضاً ضحايا حرب، فالأول فقد أخاه في المعارك التي كان يخوضها معه جنبا إلى جنب، بينما لونا فقد فقدت كامل عائلتها، ولنكون هنا أمام جيل آخر أصغر عمريا من إسما، وكيف لعلاقاته أن تتشكل بعد تلك الحرب، والتعرف إلى نتائجها المدمرة التي تتخطى الدمار والقتل وصولاً إلى الناجين جسدياً منها، بما يتيح للفيلمين في النهاية أن يقدما الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للحرب، وكيف على البشر مواصلة حياتهم بعدها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news