كتاب اليزابيث غيلبرت صار فيلماً

«طعــام.. حـب.. صلاة».. رحلات امرأة مطلّقة

عوامل جذب كثيرة اكتظ بها فيلم جوليا روبرتس. غيتي

العجلة الترويجية تدور، فتولّد داءً سرعان ما يصاب به الجميع، ثم تبدأ حملة موسعة للتداوي من هذا الداء، لكن على مبدأ جدنا أبونواس «وداوني بالتي كانت هي الداء»، لكن بنقل هذا البيت إلى مستوى آخر، بمعنى أن المداواة تكون بإطلاق أمراض جديدة، طالما أن العالم ممهد أصلاً، وما من قيمة تسوده هذه الأيام إلا الاستهلاك، وعلى مبدأ يقول لنا: استهلك ما بين يديك وبأسرع ما يمكن، لأن هناك الكثير مما ينتظر استهلاكك.

في ظل ما تقدم سيظهر علينا من يبحثون عن حقيقة ما في هذا العالم المتدافع نحو استنزاف الكون من كثرة ما يستهلكه ويستهلك كل شيء معه، وستنتقي الآلة الترويجية والتسويقية أحدهم باعتبار تجربته استثنائية في هذا الخصوص، جوهرية في إطار بحثه عن جوهر الحياة، والكثير من الوعاظ والنساك، ومبدعي الفرح لهم أن يقدموا في النهاية وصفات تصدر على أنها سحرية وليست إلا آراء مسطحة استهلاكية، ولها، لأنها كذلك، أن تنطلي على الجميع، براقة كما علب الهدايا، التي ما أن تفتح حتى يبهت محتواها.





 

لقطات من الفيلم

الحديث عن العجلة الترويجية سيأتي من فيلم Eat Love Pray «طعام.. حب.. صلاة» المعروض حالياً في دور العرض المحلية، والمأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه بقي لأكثر من 150 أسبوعاً متصدراً قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في جريدة «نيويورك تايمز»، وبما أنه كذلك فله أن يصبح كذلك في لغات أخرى ترجم إليها، بما فيها العربية، وباع أكثر من سبعة ملايين نسخة حول العالم، إضافة لاعتبار مجلة «تايم» كاتبته اليزابيث غيلبرت واحدة من أهم الشخصيات تأثيراً سنة ،2008 ولعل في ما تقدم تكثيفاً سريعاً لتتابع وتضخيم الكتاب، إذ يكفي أن تدار العجلة الترويجية حتى تكبر وتكبر بحيث تخرج من صفة العجلة إلى كرة ثلج كلما تدحرجت كلما تضخمت، وصولاً إلى تحول كتاب غيلبرت إلى فيلم، النهاية المنطقية، والقطاف المستحق لما تقدم، بحيث يأتي الفيلم وقد أحيط بما أوردنا، وبالتالي فإن النتيجة مضمونة، والربح أكيد مضافاً إلى الأرباح الخيالية للكتاب.

لكن وكما سنشاهد الفيلم، فإن عوامل جذب كثيرة أخرى ستحضر أيضاً، كأن تجسد جوليا روبرتس شخصية ليز غيلبرت، ومعها أيضاً جيمس فرانكو، مع ظهور لخافيير بادريم، ولعل اختيار روبرتس لهذه الشخصية عنصر نجاح آخر، روبرتس الشقراء هذه المرة كما هي غيلبرت، والتي سنجدها متنقلة من بلد إلى آخر، ترطن بالايطالية وتأكل المعكرونة بشهية وفيرة، ومن ثم تبحث عن ايمان يخلصها من عبء الطلاق المضني.

ذلك سيأتي بعد بداية تمهيدية تتمثل ببحث غيلبرت عن عراف أو رجل دين في بالي، نقع عليه مع بداية الفيلم وهو يقرأ كف غليبرت ويخبرها بأنها ستعيش علاقتي حب، الأولى سرعان ما تفشل، بينما الثانية تستمر، كما أنها ستخسر الكثير من المال، «لكن لا تخافي ستعودين وتكسبي من جديد»، كما سيقول لها هذا العراف المتأكد من أنها ستعود إليه.

فيلم «طعام.. صلاة.. حب» سيقودنا إلى مبدأ رئيس متحكم في الفن في أيامنا - ما يسمى فناً تجاوزًا - له أن يتمثل بتقديم كل ما يعرفه المشاهد أو القارئ دون السعي إلى تغيير معارفه المسبقة والمعدة سلفاً، وليكون هذا الشرط صمام نجاح تجاري وطلقة قاتلة لكل مسعى للاكتشاف والمغايرة، وهكذا فإن قصة غيلبرت ستكون كما الوجبات الجاهزة، سريعة وخفيفة، لا تطمح إلا إلى دفع المشاهد لتعقبها وهي تبحث عن خلاص من طلاقها من زوجها الأول، ومن ثم فشل قصة حبها التي تبعت ذاك الطلاق، ومن ثم هربها من كل ذلك عن طريق الدوران حول العالم، والبحث عن حقائق تجد عزاءها فيها فيحضر معها عنوان الكتاب/الفيلم أي بالطعام والحب والصلاة.

الأمر لا حاجة له لكثير من التعقيد، هذا ما توصلت إليه السيدة اليزابيث غيلبرت (جوليا روبرتس)، ثم إن الطعام هو من ايطاليا التي تبدأ بها رحلتها ونجدها تستمتع بأكل المعكرونة والباستا في روما بينما تجد في «البيتزا» خلاصها من أنظمة الحمية والحرص على وزنها في نابولي، وليكون هذا هو الاكتشاف الأول، ومعها الصور السياحية المعدة سلفاً عن ايطاليا والايطاليين، حيث الاختلاف عن حياة الأميركيين الذين لا يعرفون مثل الإيطاليين كيف تكون عليه المتعة، ومعها أيضاً الكسل، فالأميركيون، كما يقول لغيلبرت ذاك الرجل عند الحلاق: «لا يعرفون معنى المتعة، بل التسلية»، وهناك فرق كبير بينهما. وهكذا تمضي غيلبرت في ملاحقة المتعة التي تجدها في الطعام والنبيذ.

طبعاً الهند ستأتي بوصفها مساحة الصلاة، حيث سنكون شهوداً على مساعيها لأن تكون متأملة بوذية، وما إلى هنالك مما ستقدم عليه الهند بالوصفات الغربية المتداولة أبدًا، حيث التأمل المجاور للفقر والقذارة، لكن من يهتم للفقر والقذارة، المهم التأمل والصفاء الروحي واكتشاف الذات، وغير ذلك مما توهمنا اليزابيث بأنه منجز ذاتي استثنائي، ومن ثم يأتي الحب من الشخصية التي جسدها بارديم، لكنها أي غيلبرت ستصرخ به «لا أريد أن أحبك، أريد أن أحب نفسي»، وهذا أيضاً اكتشاف عبقري آخر.

الذاتية المطلقة والاصطفاف وراءها ستجعل من ذلك حقائق، سيبدو الفقر اطاراً للزينة، أو فولكلوراً من المتوجب وجوده أمام معضلة المعضلات، ومأساة المآسي المتمثلة بقلق غيلبرت، التي ايضاً بامكانها ممارسة تعاطفها مع الكائنات الفقيرة بمشاركتهم ما يعيشونه، وفي اتجاه متواتر تمسي آسيا ملاذاً، تؤخذ منه الروحانيات ويتم اعتناقها في البلدان الغنية، بحيث تأتي بمثابة ترف، بينما تبقى في بلدان المنشأ سبب هذا الفقر، ومرجعية لابد منها لاستمراره، وهكذا فإنه أي العالم المتحضر يبقى هانئ البال، مسالماً محفوفاً بمشكلات الذات التي لا تجد في بلدان العالم حولها إلا منتجاً متوافراً لخدمتها، شرط إبقائه كما هو، متردياً بائساً لكنه روحاني في مثالنا عن آسيا، واسترسالاً يمكن لإفريقيا أيضاً أن تكون حسية وغرائزية قبل أن تكون فقيرة تزنرها الحروب والمجاعات من كل جانب.

يصلح هذا الفيلم - إخراج رايان ميرفي في أولى تجاربه السينمائية كونه مخرجاً تلفزيونياً - أن يكون فيلماً عن رحلة دون أن يكون توثيقياً، أو من انتاج «ناشيونال جيوغرافي» دون أن يكون لا جغرافياً ولا ديموغرافياً، فيلم امرأة محملاً بنسوية مضادة، أو بكلمات أخرى بحثاً عن دراما مميزة في حياة خالية منها، دراما العواطف الجياشة، أو دراما الإيهام بامتلاك القرار، وايجاد الذات التي ستبقى عاجزة أمام كل ما يحيط بها، رغم ادعائها غير ذلك، إنه فيلم ليس بأكثر من رحلات امرأة مطلقة، رحلات سياحية رغم الإدعاء بغير ذلك، وتلفيق ما له أن يبدو بحثاً عن الذات.

تويتر