«دموع غزة» والخيال العلمي الفلسطيني
فلسطين والفلسطينيون، الداخل والشتات، ومن ثم قطعة من الخيال العلمي الأمر الذي لن ينفصل عن الشأن الفلسطيني أيضاً والذي أصبح يمتلك القدرة على أن يندرج في خانة هذا الخيال، خيال علمي متحقق على الأرض الفلسطينية والشتات، وبما يدفع الى التفكير أحياناً بعجز هذا الخيال عن مواكبة الواقع المعاش الذي أصبح وللمفارقة التاريخية يتخطاه بمئات الأميال.
ما تقدم يأتي من ثلاثة أفلام عرضت أول من أمس، ضمن الدورة الرابعة لمهرجان أبوظبي السينمائي، اثنان منها وثائقيان، هما «مملكة النساء: عين الحلوة» للفلسطينية دانا أبورحمة، والثاني بعنوان «دموع غزة» للنرويجية فبيكه لوكبرغ، والثالث له أن يندرج ضمن الخيال العلمي المقنن بعنوان Never Let Me Go «لا تتخل عني» للأميركي مارك رومانك.
صمود
نبدأ من فيلم دانا أبورحمة المشارك في مسابقة «آفاق جديدة» التي وثقت في فيلمها لمخيم عين الحلوة الذي يعتبر أكبر مخيم للاجئين في لبنان، ولعل العنوان سيكون بالنهاية معبراً أساساً إلى الفيلم، بمعنى أن توصيف عين الحلوة بمملكة النساء سنجد له أسبابه في الفيلم، ولتكون النساء عنصراً حاسماً في التأسيس لهذا المخيم / المملكة، وليأتي هذا التوصيف أيضاً على لسان إحدى السيدات اللواتي يتكلمن في الفيلم عن معاناتهن أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام .1982 ولعل كلمة معاناة ستكون غير دقيقة لأن النساء اللواتي نشاهدهن سيمثلن مفهوم الصمود أكثر من المعاناة، لا بل إنها أي المعاناة لن تروى إلا بمسحة كبيرة من التفاؤل، وهن يتكلمن عن منجزاتهن أثناء الاجتياح في ظل الاختفاء التام للرجال الذين سيكونون إما استشهدوا أو اعتقلوا أو أنهم هاربون من بطش الغزاة.
تلتقي في الفيلم مجموعة من الروايات التي تأتي على ألسنة مجموعة من النساء اللواتي اعتقلن أثناء الاجتياح، مع رصد حياتهن ومصائر أبنائهن، وما هي عليه الحياة الآن عموماً في مخيم البؤس الذي تتداخل فيه البيوت وتتلوى فيه الأزقة الضيقة، لكن عدا عن ظروف اعتقال البعض، والكيفية التي واجهوا بها وجود الجنود الاسرائيليين في مدرسة للأطفال، تأتي حكاية التأسيس لمملكة النساء أي المخيم نفسه الموجود حالياً بعد تجريفه على يد الاسرائيليين، والكيفية التي قاموا فيها بإجبارهن على العيش في الخيم التي نصبت لهن، وإقدامهن على حرقها، وكيف تمكنّ في النهاية ورغماً عن الاسرائيليين من تعمير بيوتهن الحالية حجراً حجراً، متكبدات عناء أعمال شاقة هي من اختصاص الرجال عادة.
هذه الإرادة تبدو حاضرة وحيّة في نساء «عين الحلوة»، وليأتي الفيلم محملاً بتلك الروح التي نسجتها النساء اللواتي سردن شهادتهن، مع استعانة الفيلم برسوم متحركة تجسد ما تسرده النساء، الرسوم والتي على الرغم من جمالها أبعدت «الوثائقي» عن وثائقيته، حيث «الانسرت» مفتقد تماماً من الفيلم، والاستعاضة عنها بالرسوم جاءت تزيينية وتجسيدية أكثر منها وثائقية.
مجازر
بالانتقال إلى وثائقي آخر هو «دموع غزة» المشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية، يأتي هذا الفيلم ليستعيد المجازر الدامية التي نفذتها القوات الاسرائيلية بين عامي 2008 و،2009 ولتحضر مع هذا الفيلم أسئلة كثيرة متعلقة بما له أن يضيفه على ما شهدناه وشهده العالم في هذه الأحداث حين كانت تتولى وسائل الإعلام نقلاً حياً ومباشراً للقتل والتدمير الاسرائيليين، ولعل القسم الأكبر من الفيلم كان محملاً بهذه المشاهد الوحشية التي ارتكبتها الآلة العسكرية الاسرائيلية في حق المدنيين، مع محاولة تقديم سرد مصائر ثلاثة أطفال، كل يتكلم عن من فقدوا من جراء ذلك إضافة للحياة التي كانت لهم قبل الغزو الاسرائيلي.
ولعل المادة الوثائقية لن تختلف عن المادة الإخبارية التي نعرفها، إلا بكونها ربما تأتي من زوايا رصد مختلفة عن تلك التي تناولتها وسائل الإعلام، إضافة لما يسرده الأطفال، الذين امتلكوا كل ما له أن يكون حضوراً خاصاً، ولتبقَ المادة الوثائقية التي يقدمها دليل المهرجان بأنها وثيقة استثنائية عن ما حصل داخل غزة لا جديد فيها عن ما شاهدناه عبر «رامتان» الوكالة الفلسطينية للأنباء، والحديث عن أن وسائل الإعلام منعت من تصوير أي شيء يقابله جهود تلك الوكالة، والتي لن تختلف الصور التي نقلتها عن فظاعات تلك الأيام عن ما شاهدناه، أول من أمس، في فيلم لوكبرغ، إلا في تفاصيل متعلقة بالزاوية التي وضعت فيها الكاميرا ومدى قربها من هلع البشر، لكن مع ظهور الصورة على الشاشة بشكل رديء، ولا أعرف كيف لهكذا فيلم أن يصور بكاميرا 35 ملم، كما يرد أيضاً في دليل المهرجان.
إملاءات طفولة
لكن كل ما تقدم لن يمنعنا من استعادة هذه الوحشية، الوحشية التي تقارب أعتى أفلام الخيال العلمي، خصوصاً أننا في القرن الـ.21 وحشية مرت ومررت ومازالت مستمرة، الأمر الذي لن ينقلنا سينمائياً إلى فيلم خيال علمي من طراز الغزو الفضائي أو غيرها من خيالات، بل إلى فيلم «لا تتخل عني» المأخوذ عن رواية شهيرة لكازو ايشغورو والمشارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، الرواية التي لها حين تتحول إلى فيلم أن تضعنا أمام مدرسة داخلية، وحياة التلامذة فيها، ونسج علاقة حب بين تومي وكاثي، وفق إملاءات الطفولة التي تجعل من تومي المفتقد لأية موهبة، سواء في الرياضة أو الفن، محط اهتمام كاثي، خصوصاً في اللحظة التي تذهب كاثي لمواساته حين يرفض زملاؤه إشراكه في اللعب معه، فما أن تربت على ظهره وهو في قمة توتره حتى يلتفت ويصفعها كردّ فعل غير إرادي.بعد ذلك تتعزز علاقتهما المليئة بالبراءة، لكن سرعان ما تقوم روث بخطف تومي منها، لكن كل ذلك سيمضي مع الاكتشاف الأهم الذي سينقلنا إلى مساحة الخيال العلمي المرافق لهذه الميلودراما، فهؤلاء التلامذة ليسوا إلا متبرعي أعضاء، وليست هذه المدرسة إلا لتقوم بتنشئتهم حتى يبلغوا، ومن ثم يصبحوا مادة للتبرع بالأعضاء، ويبقى تبرعهم سائراً إلى أن يفارقوا الحياة، وغالباً ما يحدث ذلك مع التبرع الثالث، وأحياناً يفارقون الحياة مع التبرع الأول.
منعطفات درامية ستطرأ على علاقة تومي البالغ (أندرو غارفيلد) وروث (كيرا نايتلي) التي سرعان ما تعترف لكاثي (كاري موليغان) بأنها خطفت منها تومي بدافع الغيرة، وغير ذلك مما يعيد روث إلى كاثي، لكن مع البحث عن أمل يؤجل موت روث في تبرعه الثاني، الأمر الذي لا يحدث.
يمنحنا هذا الفيلم وضمـن هذا الخيال فعل مجاورة دائماً وأبدياً بين الحب والموت، مجاورة واقعية للفناء بوصفهما أي الحب والموت على درجة واحدة من تأجيجه.