الفيلم الصيني «الحفرة» يوثق لمرحلة الثورة الثقافية التي قادها ماو تسي تونغ. من المصدر

القوات السورية في لبنان.. وقفزة الصين العظمى

يعاد الزمن، تؤخذ قطعة منه وترمى في فيلم في محاكاة لما سادها وهيمن عليها، ويمكن لهذه الاستعادة أن تكون متمركزة حول حدث بعينه ومكتفية به تجد بالقدرة على محاكاته رهاناً سينمائياً وتوثيقياً، ولتكون المعالجة الدرامية مبنية على أساس التعزيز من هذا التوثيق والمضي معه نحو بناء حكاية مولودة من رحم ما توثق له، وقد تأتي أحداث الفيلم في سياق درامي تكون المرحلة التي يتناولها مؤثرة تماماً بالأحداث التي نشاهدها.

مقدمة لابد منها مع مقاربة ثلاثة أفلام عرضت ضمن الدورة الرابعة لمهرجان أبوظبي السينمائي، لها أن تكون على اتصال بالمرحلة التي تجري بها أحداثها، لنا أن نجدها في فيلم السوري جود سعيد «مرة أخرى» ضمن عروض مسابقة «آفاق جديدة» وفيلم الصيني وانغ بينغ «الحفرة» المشارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة مثلما هو الحال مع فيلم «تشيكو وريتا» لثلاثة مخرجين إسبان على رأسهم فرناندو تروبيا.

إملاءات تاريخية

نبدأ مع فيلم «مرة أخرى» لجود سعيد في أولى تجاربه الروائية الطويلة، التي تشكل ولادة مخرج سوري مميز، ولا نملك على ذلك إلا خير دليل وهو هذا الفيلم تحديداً، وليضيء لنا معبراً إلى جيل جديد من المخرجين السوريين، لا بل إن سعيد سيتناول للمرة الأولى شأناً سورياً لم يسلط عليه الضوء أبداً، ألا وهو العلاقة السورية اللبنانية، من خلال وجود القوات السورية في لبنان لأكثر من 30 سنة أثناء الحرب الأهلية وما بعدها، وعبر أخذه إعادة الزمن كما سبق أن أسلفنا ومن ثم مواكبته وصولاً إلى عام ،2006 بحيث تتحرك حكاية الفيلم ضمن هذا الإطار التاريخي وفي تقطيع زمني مبني بحنكة لجمع كل العناصر والإحاطة بها في تناغم بين حكاية الفيلم وما يراد قوله، ووفق املاءات العالم الذي يراد تقديمه.

فيلم سعيد مستوف تماماً كل عناصر الفيلم المحكم، يتحرك عسكرياً ومدنياً إن صح التوصيف، ومن العسكري يخرج المدني، ومن العسكري أيضاً تنسج العلاقات الاجتماعية بين الشخصيات، التي تتكون شاءت أم أبت وفق املاءات تاريخية، وبالتالي فإن كل الشخصيات وأزماتها وعوالمها هي ابنة هذا المسار. وفي جانب آخر توثيقي أيضاً.

كل ذلك سيحتكم إلى فضيلة مثلى هي تتبع الانساني في التاريخي والعسكري والحربي وهنا يحضر الروائي بوصفه رواية موازية للتاريخي، فمجد شخصية الفيلم الرئيسة لن يكون إلا ابن الحروب اللبنانية رغم أنه سوري، فهو من سيشهد موت والدته في رصاصة قناص، بينما والده قائد فرقة عسكرية سورية موجودة في لبنان، وبالتالي فإنه سينشأ في الثكنات العسكرية، وسيتولى تربيته أبوسعيد (قدم الدور بأداء مميز المخرج السوري المعروف عبداللطيف عبدالحميد)، ومدرسة مجد ستكون مدرسة الراهبات في إهدن، وعندما يفقد ذاكرته وهو طفل فإن ذلك سيكون جراء لعبه بالأسلحة الحقيقة التي يجدها أينما التفت، ورصاصة تصيب رأسه.

وحين يمسي شاباً (قيس الشيخ نجيب) فإنه سيفقد والده (جوني كوموفيتش) أيضاً الذي ما عاد يطيق الحياة الهادئة الخالية من الحروب، والذي بدوره يقدم شخصية الضابط الذي ولد لأن يكون محارباً مع احتكامه على كل الصفات النبيلة من شجاعة ووفاء ورجولة في هذا الخصوص، التي سيقابلها لدى ضابط آخر ما له أن يكون الضابط المـتأقلم المتلون حسب المرحلة والمستفيد دائماً من الحرب والسلم وما بينهما أي الشخصية التي جسدها عبدالحكيم قطيفان، التي ستبقى موجودة وقد تحول ذاك الضابط إلى رجل أعمال ثري.

يتحرك الفيلم في زمنين، أثناء الحرب والاجتياح الاسرائيلي للبنان، وزمن آخر هو ما بعد خروج القوات السورية من لبنان، حيث مجد يعمل في الشركة التي يملكها ذاك الضابط الذي كان زميلاً لوالده، ولتنسج علاقة حب تنشأ بين مجد (قيس الشيخ نجيب) وجويس (بيريت قطريب) التي تأتي من لبنان للعمل في الشركة نفسها، وليكون تموز 2006 موعداً آخر لما له أن يكون «مرة أخرى»، فعلى مجد أن يساعد جويس للوصول إلى ابنتها وأمها المحاصرتين في لبنان، وليبقى بعد نجاحه في ذلك على الجسر بين لبنان وسورية كما لو أنه مصيره أن يبقى عالقاً بينهما مرة أخرى وربما مراراً.

وثيقة سينمائية

سنعود إلى فيلم جود سعيد مجدداً في صفحات السينما بعد المهرجان لأنه يستحق الكثير، وننتقل الآن إلى فيلم الصيني وانغ بينغ «الحفرة» الذي لن يمهلنا ولن يؤسس حكايته إلا في خضم ما يراد تسليط الضوء عليه، كما لو أن بينغ وفي تجربته الروائية الأولى هو الذي عرف بأفلام وثائقية كثيرة، لم يفارق إلا جزئياً الوثائقي، وهو يقدم في هذا الفيلم وثيقة سينمائية يراد لها أن تكون معادلاً روائياً لمخيم «مينغشوي» لإعادة التثقيف، الذي أقيم إبان ما عرف بالقفزة العظمى للأمام في أواخر خمسينات القرن الماضي، وبالتأكيد عبر المراحل التي رسمها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لثورته الثقافية وغير الثقافية ولنضيف هذا الفيلم إلى سلسلة من الأفلام الصينية التي تشكل نبشاً في هذا التاريخ، وتوثيقاً لتلك المرحلة التي لا تخلو من نقدية جذرية، نقدية لا حاجة لها لشيء إلا نقل ما حدث وفي هذا ما يكفي مثلما هو الحال مع فيلم «الحفرة» الذي عرض أول من أمس، وصوّر حياة من عاشوا في ذاك المخيم، أو ماتوا في ذاك المخيم التوصيف الأدق، ما دمنا وطوال الفيلم نشاهد كيف يموت المعتقلون واحدا بعد الآخر، جراء ظروف أعمالهم الشاقة وحرمانهم من الطعام، وهم في صحراء معلقة بين السماء والأرض، ويعيشون في حفر لا شيء فيها إلا انتظار الموت.

في الفيلم مشاهد مفرطة القسوة يراد لها أن تصور ما كانت عليه حياة هؤلاء الذي اعتبروا يمينيين فاقتيدوا إلى هذا المخيم، ومنهم من انتقد ملمحاً من الثورة أو أبدى رأياً مثلما هو حال البروفيسور الذي قال في أحد الاجتماعات إن «ديكتاتورية البروليتاريا ليست صحيحة يجب أن تكون هناك ديكتاتورية الشعب، كل الشعب بمختلف فئاته» فكان مصيره أن يكون في هذا المعتقل ليموت فيه، ونحن نشاهد في مشهد مفرط القسوة من يأكل جرذا ومن ثم نكون شهوداً على آلام معدته، وعندما يتقيأ فإن معتقلاً آخر يقوم بأكل قيئه، وصولاً إلى قيام أحدهم بأكل لحم الجثث، وغيرها من قسوة، لها أن تأخذ منحى درامياً مع وصول زوجة أحد المعتقلين وبحثها عن زوجها الذي يكون قد مر على وفاته أكثر من ثمانية أيام، ونبشها القبور الخالية من الشواهد في بحثها عن جثته لتحرقها لئلا تبقى في هذا المكان البائس.

جاز

نكتفي بما تقدم من فيلم «الحفرة» ونمضي مع فيلم «تشيكو وريتا» والمشارك أيضاً في مسابقة الروائي الطويل، الذي سيمسي ترفيهياً أمام ما تقدم مع أنه ليس كذلك أبداً، لا بل إنه احتفالية سينمائية بموسيقى الجاز والموسيقى الكوبية، احتفالية تتخذ من «الأنيميشن» خير ما يقدم مساحة جمالية بهذا الخصوص، ولتكون الموسيقى زائد «الأنيميشن» مع قصة الحب التي تنسج بين تشيكو وريتا معبراً لأن تكون صالة العرض ممتلئة عن آخرها، والفيلم يتحرك بين أجمل مقطوعات الجاز، وعلاقة الحب المعقدة بين تشيكو عازف البيانو والمؤلف الموسيقي وريتا المعنية الخلاسية الجميلة، ومن مصائرهما بين هافانا ونيويورك، هافانا ما قبل الثورة وما بعدها لئلا نكون بعيدين عن كل ما تقدم.

الأكثر مشاركة