«شتي يا دني» على المـخطوفين و«كارلوس» الفاشل
السينما على اشتباك بالأحداث السياسية والمفاصل التاريخية، ولها أن تأتي وفق مقترحاتها السردية التي تأخذنا إلى مشاغل سردية غير سينمائية، هناك شخصيات تطفو على سطح الشاشة وتغرق في بحر متلاطم من المقاربات، بينما يأتي ما له أن يكون ملمحاً من تاريخ كامل فيلقي عليه الضوء بوصفه مهيمناً على الحاضر ومتحكما في مصائر من لم يعاصروا ما يعيشون تحت وطأته. ستحضر تباعاً الأفلام التي لها أن تكون حاملاً لما سيكون عربياً بامتياز، أفلام عن قضايا عربية لكن بعيون غير عربية، ونقصد هنا فيلم جوليان شنايبل «ميرال»، وفيلم «كارلوس» لأوليفييه أساياس، وصولاً إلى فيلم اللبناني بهيج حجيج «شتي يا دني»، وجميعها من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة الرابعة لمهرجان أبوظبي السينمائي التي تختم اليوم.
من «ميرال» سنبدأ، من التنقل المحموم في التواريخ المفصلية للقضية الفلسطينية وعلى هدي إيقاع ليس لجوليان شنايبل إلا أن يكون مقدماً له بما يتسق مع مسيرته السينمائية المعروفة، التي يمضي بها السرد في «ميرال» عبر أربعة خيوط درامية متناسلة من بعضها بعضا، ولتلتقي جميعاً لدى ميرال (فريدا بينتو)، لكن انطلاقاً من شخصية هند الحسيني (هيام عباس)، التي يبدأ وينتهي بها الفيلم، ومن «دار الطفل» الذي تؤسس له بعد وقوعها على يتامى المجازر الإسرائيلية في دير ياسين وغيرها، وبما يجعلها أيضاً ملتقى المصائر، وتحديداً ميرال بعد أن نمضي مع أمها التي سرعان ما تنتحر ويجد والدها في وضعها لدى الحسيني أفضل ما يمكن القيام به ليضمن لها مستقبلها.
نيات حسنة
المرور الحالي على فيلم «ميرال» لن يكون هنا إلا عاجلاً بحاجة إلى وقفة نقدية أكثر امتداد وتفصيلاً، ولنعود إليه في ما بعد، ولعلنا سنمضي الآن خلف ما يأخذنا عن السينما في أفلام كهذه، إلى المعالجة التاريخية لما حمله هذا الفيلم الذي يبدأ من النكبة مرورا بالانتفاضة وصولاً إلى اتفاقات أوسلو، وعلى شيء يجعل من أوسلو محطة الأمل الكبرى مع أن الفيلم يورد في النهاية أن المفاوضات مازالت متواصلة، ولكم أن تعرفوا حالها الآن، لنرى ميرال وهي تقول للحسيني ما ترتبت عنه كما لو أنه بمثابة الاستقلال الفلسطيني، وفي الوقت نفسه يبدو التوقف عن الانتفاضة كما لو أنه توقف عن الكفاح المسلح في مقابل العملية التفاوضية، وكلنا يعرف أن الانتفاضة لم تكن إلا أداة سلمية أو عصياناً مدنياً وجد في الحجارة ما يجابه به آلة الحرب الاسرائيلية.
فيلم شنايبل هنا وبعيداً عن السينمائي، يندرج في خانة أفلام «النيات الحسنة» التي لن يفارقها أيضاً المجمع عليه عالمياً، وعلى مبدأ توافقي مهما نبش في الحقائق فإن سيكون مسبوقاً بالمعد سلفاً، وكل ذلك سيكون على اتصال بالسيناريو الذي كتبته رولا جبرايل، وعلى رأس ذلك مفهوم السلمي والعنفي، العمل السلمي والإرهابي، وقدرة التوصيف الأخير أن يحتوي كل شكل من أشكال المقاومة السلمية، والكرم المفرط الذي تحمله المقاربات على إسباغ العنفي على كل ما هو تحرري وتطلعي.
فشل ثوري
ومع حضور الحديث عن «الإرهاب»، فإننا وفي الحال سننتقل إلى فيلم أساياس «كارلوس»، الذي يعرض للمرة الأولى في العالم العربي في نسخته السينمائية، كونه عرض في بيروت بنسخته التلفزيونية التي تقارب الخمس ساعات، ولنمضي مع حياة رجل فنزويلي قاتل في صفوف الثورة الفلسطينية وتحديداً «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وتحت إمرة وديع حداد المنفصل عن قيادة جورج حبش.
الفيلم أولاً وأخيراً هو عن كارلوس، لكن ثمة مفارقة لها أن تستوقفنا دائماً حين يرد في مقدمة فيلم أو كتاب أو أي عمل فني أن الأحداث والشخصيات من نسج الخيال، فإذا بتلك الشخصيات والأحداث ترد بأسمائها وأمكنتها وتواريخها، من دون تغيير أي اسم، وهذه هي حال كارلوس في فيلمنا، إذ يقال من البداية إن هناك نقطاً كثيرة في حياة هذا «الإرهابي»، كما يصفه الفيلم، بقيت غامضة، لذلك فإن الأفضل التعامل معه بوصفه من نسج الخيال، لنرى طيلة الوقت أحداثا موثقة وشخصيات معروفة عالميا وعربيا، ومصائر سرعان ما ستتضح في النهاية وعبر صور حقيقية لأشخاصها.
تتمثل المقولة الرئيسة التي أسس عليها فيلم أساياس في أن كارلوس «إدغار راميريز» رمز من رموز الفشل الثوري، غارق بالنساء والكحول، ومن ثم سيصبح ذاك المغرور، وليتحول إلى بندقية للإيجار، وليكون انهياره مترافقاً تماما مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، وبالتالي تدافع الأنظمة العربية للتخلص منه وصولاً إلى السودان الذي سرعان ما يسلمه إلى فرنسا، إذ يحكم عليه بالسجن المؤبد لقتله شرطيين فرنسيين.
لابد أن كارلوس يمثل مرحلة كاملة، وله أن يكون في النهاية أحد تجليات اليسار الراديكالي، الذي كان لا يعرف حدوداً لصراعه مع الامبريالية العالمية، كما يرد أكثر من مرة، ولتعطى المساحة الكبرى في الفيلم لعمليته الشهيرة في فينا حين اختطف وزراء النفط في منظمة «أوبك»، والتي لم يحاكم عليها إلى اليوم.
مصير المخطوفين
مع فيلم بهيج حجيج «شتي يا دني» ننتقل إلى مقاربة لبنانية لشأن لبناني خاص وحساس جداً، ألا وهو مصير المخطوفين في الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال سرد مصير رامز «حسان مراد» الذي نقع عليه من البداية وهو يفارق مكان اعتقاله أو اختطافه الذي امتد لأكثر من 20 سنة، ومن ثم مصائر من حوله مثلما هي الحال مع زوجته ماري (جوليا قصار) وولديه. رامز لن يجد شيئا يفعله إلا الهوس بجمع الأكياس الملونة، وسيكون معطلاً تماماً إلا أن يصل مصادفة إلى امرأة (كارمن لبس) أمضت حياتها بانتظار زوجها المخطوف. ما تقدم مسار عام لأحداث تترافق مع لازمة متكررة متمثلة بأم تكتب رسائل لابنها المخطوف تنشرها في جريدة السفير اللبنانية، ومن ثم عزف ابنة رامز على التشيلو. ستبقى الخطوط الدرامية متصلة بقسرية، وسنبقى نلاحق الأحداث وهي تلتصق ببعضها بعضا على هدي ما علينا الاتفاق عليه مسبقاً، وعلى شيء من متاهة المخطوف رامز الذي يبقى هائماً على وجهه في شوارع بيروت مثلما هو الفيلم أيضاً.