سعيد سالمين في أولى تجاربه الروائية الطويلة
«ثوب الشمس».. بمقـاسات فضفاضة
يبقى السينمائي متوثباً نحو فيلم روائي طويل، ويبدو له في أحيان كثيرة أن الأفلام القصيرة ليست إلا خطوات لها أن تجتمع في وثبة واحدة تكون بمقاس فيلم روائي طويل يسجل المخرج من خلاله حضوره الأكبر، وليكون هنا التحدي مغرياً، وليحضر الحديث عن البنية التي يتأسس عليها الفيلم، والإطار الفني والأسلوبي الناظم لما يحمله إلينا الفيلم، والذي يكون موجوداً بداهة في الفيلم القصير لكن مع الطويل يمسي مكشوفاً أكثر، ممتداً والتناغم بين المقولة ومبررات العمل الفني أولى الخطوات الناظمة التي ستستدعي بالتأكيد أدوات مغايرة تمنح المقترح جمالياً اتساقه ليأخذنا إلى عالمه، دراميا كان أو رمزيا أو أسطوريا.
مقدمة لا بد منها وقد شاهدنا الخميس الماضي جديد المخرج الإماراتي المميز سعيد سالمين «ثوب الشمس» ضمن عروض برنامج «آفاق جديدة» في الدورة الرابعة لمهرجان أبوظبي السينمائي، الفيلم الذي كان مرتقباً بقوة، وقد شهدت صالة العرض في «سيني ستار مارينا مول» حضوراً حاشداً، وبدافع أكيد متمثل بفضول التعرف إلى ما سيقدمه سالمين في تجربته الروائية الطويلة الأولى بعد النجاحات التي حققها في أفلامه الروائية القصيرة مثل «هبوب» و«عرج الطين» و«الغبنة» وصولاً إلى «بنت مريم» الذي حصد الكثير من الجوائز محلياً وعربياً وعالمياً.
وبالتأكيد سيستدعي سالمين في هذا الفيلم ما له أن يكون ملامح مما عرفنا به أفلامه القصيرة، أو أسلوباً وفياً للقطة والبناء المشهدي للسرد كما هي الحال في فيلمه السابق «بنت مريم» حيث الاستثمار كان على سبيل المثال في مفردات بصرية متمثلة بالخوذة التي تتلقى حبات المطر، الرجل الذي يحمل شتلة ليمون ونحن نتتبع أشباح فتاة تتزوج من رجل ستيني، الأمر الذي سيتسرب إلى «ثوب الشمس» بالتأكيد لكن كملمح منه، وليأتي الفيلم معلقاً بين تلك العناصر والدراما التي تراهن على الأسطوري والبيئي وتداخل بعضهما بعضاً.
يمضي فيلم «ثوب الشمس» في ثلاثة مستويات: اسطوري وواقعي وبيئي، لن تجتمع على ما يصيرها في النهاية تحت بنية متماسكة لها أن تقول لنا شيئا متسقاً ومتماسكا، لا بل إن كل مستوى على حدة افتقد تماسكه، وتعرض لخيانات كثيرة أبعدت الأسطرة عن الأسطوري والواقع عن الواقعي، والتي خضعت لارتجالات سيكون مرحباً بها، لو كانت ماضية في نسق واحد تتفرع عنه، إلا أنها في الأساس كانت وليدة إملاءات ضائعة في مهب تمديد الزمن ليكون طويلاً.
يبدأ الفيلم من الراوي يخبرنا عن حليمة، التي سرعان ما ستكون أسطورة خارج المكان والزمان، كوننا سننتقل إلى دمشق لنشاهد ذاك الفتى يهجس بها ومعه والدته التي تقول له إن آلاف «الحليمات» موجودات في هذا العالم، وبالاستعانة بلوحة لها أن تكون صورتها، وليمسي الفتى الدمشقي الراصد الأكبر لحليمة أو كاتبها وهو يدون فصول حكايتها، كما سنرى طيلة الفيلم وصولاً إلى الثوب الذي يضعها لها على القبر، ثوب الزفاف المهدور إن صح الوصف، وبالتأكيد هذا الفتى سيكون المتماهي الأكبر مع حليمة وراوي أحداث الفيلم.
وفي تعقب ما ستكون عليه حليمة كمادة أسطورية متخطية للأبعاد الزمنية فإننا سنكتشف هذه المرة أنها ابنة المكان والزمان، إذ إننا سنعود إلى دولة الإمارات بما له أن يكون خمسينيات القرن الماضي، حيث نتعرف إلى حليمة الخرساء والبكماء، التي سنعرف عنها ايضاً أنها يتيمة الأم، وأنها تعيش كل أوقاتها داخل بيت الحمام (سيكون الحمام حاضراً على الدوام كأدوات تعبير عشقية أو ديكور يمكن لهديله أن يكون موسيقى تصويرية ربما)، ولنقابل أيضاً صالح الهائم بها الذي يرفض والده تزويجه بها لما تعانيه حليمة من إعاقة، بينما يأتي زائر اسمه علي فتقع في غرامه حليمة، ولتصبح هذه المرأة رهينة حالتي حب، في الحالة الأولى فإن صالح من يحبها وهي لا تحبه، بينما تحب هي علي وليرفضها هذا الأخير، وإلى جانب حليمة تحضر أختها الصغرى التي تحب صالح والتي سنجدها في النهاية وقد تزوجت منه.
في ما تقدم البنية الرئيسة لقصة الفيلم، التي تعرضت إلى كميات كبيرة من التفرعات للخلوص إلى ما تقدم، والتي هي أساساً بنية ميلودرامية مضت نحو تحويل حليمة إلى أسطورة، فبقيت في نطاق المأهول بالواقعي، ولم تتحول إلى مجاز للعسف الاجتماعي بقدر ما بدت امرأة تحاصرها خيبة العشق، بمعنى أن القصة نفسها لا تحمل مقومات الأسطوري إلا قسراً، ولا تريد في الوقت نفسه أن تكون واقعية أو لا يراد لها ذلك.
النسيج الكامل للفيلم يأخذنا إلى ما تقدم، وفي ثنايا هذا النسيج تتحرك اللقطات والغوايات البصرية التي يتبعها سالمين في سرده، وليكون السؤال الذي يفرض نفسه بقوة في هذا المقام: هل كانت العناصر الأخرى التي أضيفت إلى النسيج الرئيس للفيلم تخدم أغراضاً درامية؟ وباستبدال السؤال بآخر هل حملت مجازات الصورة ما يجعل منها مجازاً تفاعلياً؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستكون المحدد الرئيس لما عانى منه الفيلم الذي امتلك امكانية فيلم أفضل بكثير، لكنها ومجدداً ستحضر غواية ما يلتصق بالفيلم من دون أن يكون في خدمة ما يود إيصاله، أو التنقل بين المستويات الثلاثة السابقة الذكر دون أن يكون هذا التنقل مؤسساً على أسلوبية تنسجم مع بناء الفيلم ككل، وهذا ما يجعلنا ضائعين ونحن نشاهد الفيلم، هذا ما يجعلنا نتعقب الشخصيات الرئيسة وهي تمرر مسبوقة بصفاتها دون أن تشاركنا إياها بما يجعلنا نبني علاقتنا معها، وتغليب التجوال البصري في المكان والاستخدام المتكرر للحمام ومصاحبة اللاشعري للشعري، ثم إن حليمة بوصفها امرأة جميلة لن تقودنا إلى التعاطف الأسطوري معها بوصفها تعاني، لا بل سنجدها امرأة تعيش الحب بحرية مطلقة، الأمر الذي نتوق أن يكون أو كان كذلك، وما من أحد يمارس عليها أي عسف اجتماعي، لا بل إن رفض علي لها لن يكون بمنطق حياتي إلا إدانة لعلي نفسه، كونه يرفض امرأة جميلة، وتحديداً أن الإعاقة ستكون متوارية أمام المكياج المتقن للممثلة، كما هي أختها التي تعيش العشق كل العشق، بينما والدهما شخص لا يتسبب في معاناتهما، إنه شخص يستحق الثناء كونه يدع لابنتيه الحرية المطلقة، ثم إنه يغيب لدرجة نعتقد فيها أنه قد مات ولنشاهده في النهاية، وعليه فإن الاضطهاد الذكوري للأنثى لن يكون حاضراً ابداً، بل الرهان على الإعاقة وما تجابه به المرأة لأنها كذلك، ولا نعرف إن كان ذلك مما يطفو من خمسينات القرن الماضي كأولوية، أو حتى في وقتنا الحالي أمام حرية المرأة وتطلعاتها وما تصطدم به من عادات وتقاليد.
كيف للواقع أن يكون مراً واصرار الفيلم دائما على تقديم الجميل، وليس تقديم الواقع بجمالية بصرية؟ كيف لثوب الشمس أن يكون من نصيب حليمة ونحن ننسى واقعها المحاط ببنية سياحية؟ وهكذا فإن جماليات الفيلم ستكون ماضية في سياقها الخاص، الجمال لمجرد الجمال، بينما يلتصق هذا الجميل بالمفترض أنه قبيح فلا يبقى كذلك، إنها غواية الانجراف نحو العناصر مفردة وتجميعها في فيلم، بدل الاستسلام للسياق الذي في جوهره ميلودراميا حمل بما ينوء بحمله فضاع في زحمة التزيني، إنها محاولة لسالمين أن يقدم الكثير من خلال فيلمه هذا، الكثير الذي له أن يمنحنا نواحي جمالية وإبداعية منفصلة عن السياق الكامل، كما لو أننا كنا أمام عبارات جميلة في نص مفكك.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news