عن الفنزويلي الذي دوّخ العالم

«كارلوس».. ليالي ابــن آوى المستعادة

الفيلم يعرض لمرحلة زمنية محددة من حياة «كارلوس». آوت ناو

ثمة أفلام تدفعك إلى الحديث عن السياسة أكثر من السينما، والتأريخ والتوثيق أكثر من الرواية التي يقترحها الفيلم، ومعها طرق السرد وما إلى ذلك، خصوصاً إن كان الفيلم يقدم لشخصية حقيقية، مازالت على قيد الحياة، وأقصد هنا فيلم أوليفييه أساياس «كارلوس» الذي عرض في نسخته السينمائية في الدورة الرابعة من مهرجان أبوظبي السينمائي، النسخة التي أخذت عن نسخة تلفزيونية مقسمة إلى ثلاثة أجزاء بما يتجاوز خمس ساعات عرضت في الدورة الأخيرة في مهرجان «كان» السينمائي. ثم في «أيام بيروت السينمائية».

ولعل الفيلم كما صرح أساياس في العدد الأخير من مجلة Sight & Sound متمركز حول مرحلة بعينها هي سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كما يقول أساياس للمجلة البريطانية، متحدثاً عن الفيلم بوصفه فرصة له شخصيا لاكتشاف تلك المرحلة «الأمر كان جديداً بالنسبة لي»، وتقديم فيلم عن الثائر الفنزويلي إليتش رامبريز سانشيز الملقب بكارلوس أو «ابن آوى» لن يكون إلا في مركز تلك المرحلة كون كارلوس ليس إلا تكثيفاً لكل ما شهدته من أفكار وأعمال وتطلعات على الصعد النضالية الأممية، إضافة إلى رصد ما كان عليه اليسار الراديكالي في تلك المرحلة، وسيكون كارلوس الابن البار للحرب الباردة التي ظهر نجمه إبانها وأفل مع نهايتها وانهيار الاتحاد السوفييتي.

جدل

الفيلم رغم ضآلة قيمته السينمائية لن يكون بحال من الأحوال محملاً بما تقدم، لكنه في الوقت نفسه قادر على فتح باب الجدل من جهات عدة قادمة من السياسي أكثر من السينمائي، كما أن الصفة الأخيرة يمكن التعامل معها بوصف الفيلم فيلم «أكشن» عن رجل ارتبط بمنظمات «إرهابية» وراح يتنقل بين عملية وأخرى، ومن امرأة جميلة إلى أخرى أجمل، مع ارتباطه أيضاً بأكثر من جهاز مخابراتي عربي، ثم وقوعه في يد أعدائه وسجنه بعد تسليمه للفرنسيين، لكن كل ذلك لن يبقى كذلك، ونحن أمام شخصيات حقيقية بأسمائها، ومعظم الشخصيات مازالت على قيد الحياة ولها ما تقوله بخصوص ما تشاهده، بما في ذلك كارلوس نفسه القابع في سجن «بواسي» الفرنسي، فقد أمسى ما أحيط به الفيلم أهم من الفيلم نفسه والذي قدم في النهاية تناولاً سطحياً للأحداث والدوافع، واللافت أيضاً أن كارلوس نفسه اطلع على نسخة من السيناريو، لكنه لم يأخذ بأي من ملاحظاته المتعلقة بحقائق تاريخية، مسجلاً 72 مغالطة تاريخية، حسب ما يورد في تصريح له من خلف القضبان نشر في جريدة الأخبار اللبنانية، معترضاً في الوقت نفسه على الشركة المنتجة «كانال بلس»، واصفاً المخرج بأنه محترف وقدير لكنه اعتبر الشركة المنتجة على ارتباطات دعائية صهيونية، حسب تعبيره.

خط أفقي

قبل تقديم المزيد مما أحيط به الفيلم منذ عرضه إلى الآن، فإن الفيلم يقدم حياة كارلوس «ادغار راميريرز» وفق خط أفقي يتمثل بداية مع انتسابه إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتعرفه إلى وديع حداد (أحمد قعبور)، وتسلمه العمليات في لندن ثم في باريس، ولنمضي بعد ذلك مع سلسلة العمليات التي نفذها لمصلحة الجبهة وعلاقته بالخلايا الثورية الألمانية وغيرها مع المنظمات الراديكالية العالمية، وصولاً إلى عملية فيينا الشهيرة حين قام ورفاقه باختطاف وزراء النفط لمنظمة «أوبك» التي تحتل المساحة الزمنية الكبرى من الفيلم، ومن ثم انهياره إن صح الوصف مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وتخلي سورية عنه، وهروبه إلى السودان، حيث نشهد من هناك تسليمه من قبل السلطات السودانية إلى الفرنسيين.

هذا بالمختصر أحداث الفيلم المترافق مع مشاهد جنسية ملصقة بالفيلم، يظهر فيها كارلوس مهوّساً بالجنس والعنف، كما هو المشهد الذي نجده يستخدم القنابل في عملية الحب، مع الابتعاد تماما عن أي تصوير لدوافع كارلوس في ما يقوم به، بما يحتمل على الأقل الخطأ أو الصواب، كما أنه طوال الفيلم ليس إلا باحثاً عن الشهرة والنساء والكحول، ولعل النسخة السينمائية جاءت مضغوطة بحيث لا نرى كارلوس إلا متنقلا من عملية إلى أخرى، متحدثاً عن صراعه مع الامبريالية الذي يجب أن يكون أممياً في عبارات عابرة ومقتضبة، وعلى هدي ذلك تحضر عناصر الخلايا الثورية الألمانية «الضائعون المأجورون» كما هم في الفيلم، التي تحتمل جميعاً قراءة مسبقة قادمة من الراهن، واستبعاداً كاملاً لما ارتبط به كارلوس وآخرون من جنسيات متعددة مع القضية الفلسطينية التي لا يرد ذكرها طوال الفيلم، وعلى شيء يجعل كل من في الفيلم حزمة من الإرهابيين الذي يقتلون لمجرد القتل.

منطق الآن

ما تقدم ليس إلا اتباعاً لما يعتبره أساياس تصويرا لمرحلة، دون أن نكون في وارد إملاء ما يجب أن تصور به تلك المرحلة، لكن وفي الوقت نفسه في وارد التأكيد بأن الفيلم مصور دون أن يكون معنياً بادعائه، أو كما يورد أساياس في المقابلة سابقة الذكر، بأن كارلوس لم يعد ذاك الذي كان عليه في 23 من عمره، سيكون أيضاً امتداداً للفيلم نفسه حيث المقاربة بمنطق الآن الذي لم يكن كذلك قبل 30 سنة، ولعل ذلك ما يجعلنا نضع أفلاماً تناولت شخصيات حقيقة مقابل هذا الفيلم لا لشيء إلا لمعاينة ما يكون عليه تقديم الشخصيات الواقعية، بمعنى أن تقديمها وفق أفعالها وترك الحكم عليها للمشاهد، مثلما هو الحال مع بوبي ساند في فيلم «جوع» 2008 لستيفن ماكوين، حيث هذا الزعيم الإيرلندي الذي يموت جراء اضرابه عن الطعام في السجون الانجليزية سيتبدى لنا بالطريقة التي نقارب بها حياته وأفعاله الموضوعة أمامنا، وسيكون توصيفه بالإرهابي مقابلاً أيضاً للمناضل، والعكس صحيح، وفي اتباع لمقاربتنا لما نجد عليه الجيش الإيرلندي الجمهوري في صراعه الدامي مع الاحتلال البريطاني. هذا مثال من بين أمثلة كثيرة من أفلام ترتكز على شخصية حقيقية لا ترى فيها حكماً مسبقاً، والوفاء إلى المرحلة أمر لابد له أن يكون من أوليات العمل.

المنطق السابق سيمضي جنباً إلى جنب مع البناء التجاري لفيلم «كارلوس» فهو في النهاية محمل بكل أنواع النجاح، على اعتباره فيلم «أكشن» وجنس ومغامرات، وإن شاهدناه كذلك فإن شيئاً من كل ما تقدم لن نتحدث عنه، ولعل اساياس في تقديمه الفيلم وقوله بأنه فيلم خيالي ما يتيح ذلك، ويدفع للضحك أيضاً ونحن نشاهد الشخصيات بأسمائها الحقيقية مثل أنيس النقاش وحسن الترابي ومحمد الخولي ووديع حداد، إلخ. كما أن عملية «أوبك» كما قدمت فإنها تحمل اتهاماً مباشراً للنظام العراقي السابق، الأمر الذي ينفيه كارلوس من سجنه معتبراً حسب زعمه أن «النظام الليبي هو النظام الوحيد الذي دعم تلك العملية».

ختاماً، كل ما تقدم يسعى إلى توضيح ما يمكن أن تكون عليه السينما حين تقرر الاقتراب من وقائع بعينها، وما يمتلكه السرد السينمائي من قوة في تغليب رؤيته على ما عداها، وكل ما سعينا إليه هو وضع بعض من أمثلة بسيطة مما يعتري مثل هذه الأعمال من جدل.

تويتر