الرقة والوحشية جنباً إلى جنب
«دعني أدخل»..أنا مصاصة الدماء العاشقة
ماذا لو كانت جارتك مصاصة دماء؟ ماذا لو وقعت في غرامها؟ حسناً، يمكن لهكذا أسئلة أن تتوالى وتتكشف بغرابة ما، لكن هذه الغرابة سرعان ما تتبدد ونحن نمضي مع فيلم جميل مازال يعرض في دور العرض المحلية بعنوان Let Me in «دعني أدخل»، فيلم له أن يضعنا أمام جمالياته الخاصة التي تمضي بنا على أكثر من صعيد، لها في النهاية أن تلتقي أمام تقديم دراما يحوم فيها طيف دراكولا، وفي استثمار استثنائي للميراث السينمائي الذي صنعه مصاصو الدماء أولئك، بعيداً عن كونهم لا شيء سوى كائنات تغرز أنيابها في رقاب الضحايا ويمصون دماءهم.
المساحة في «دعني أدخل» مفتوحة على مصراعيها أمام جماليات تمضي جنباً إلى جنب مع العالم الخيالي الذي أسس لهذه الكائنات السينمائية، وبعيداً عن تقديمها بالفجاجة التجارية التي تجعلها كائنات متوحشة لا تفعل شيئا سوى مصّ الدماء لمجرد مص الدماء، بل إنها تمضي مع مات ريفس مخرج الفيلم نحو عالم قصصي جميل، والبناء لتجاور قصتين، قصة أوين وقصة آبي، ومن ثم تشابك القصتان عبر العلاقة الغريبة التي تنشأ بين الاثنين.
توصيف الفيلم بالجميل، سيكون متأتياً من أن كل حدث من الأحداث التي يحملها يدفع للسؤال عن الكيفية التي قدم بها؟ ولتكون الإجابات متعددة ومتنوعة، وليأتي التقطيع المونتاجي على تناغم مع الإضاءة والأجواء التي يسعى الفيلم إلى تقديمها في ثمانينات القرن الماضي، ولنكون في النهاية أمام فيلم محكم، يأخذنا إلى عوالمه، سواء كنا من عشاق مصاصي الدماء أو لا، فهنا السينما تتكلم وبفصاحة، ولها أن تتفوق على ما عداها من اعتبارات.
يبدأ الفيلم من لقطة بعيدة لسيارة إسعاف تمضي في طريق يتعرج بين الجبال والهضاب، وكل شيء مغمور بالثلوج، والحديث عن أن من يتم إسعافه هو رجل مصاب بحروق كثيرة من جراء تعرضه لمواد كيماوية. ونمضي إلى المستشفى ونرى محقق الشرطة يتحرى عنه، ويسعى إلى الحديث معه، الأمر الذي يبدو مستحيلاً فيضع المحقق دفتراً صغيراً وقلماً على أمل أن يكتب أي شيء، ومن ثم يغادر الغرفة ليتلقى اتصالاً هاتفياً يخبره بأن بنتاً صغيرة جاءت للسؤال عنه، وليحدث كل ذلك بينما نشاهد على التلفاز الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان يلقي خطاباً يتحدث فيه عن قوى الشر، ومن ثم تأتي من غرفة ذاك الرجل المحروق صرخة عالية من الممرضة، ويمضي المحقق إلى الغرفة فيجد النافذة قد فتحت وقد رمى الرجل نفسه منها، ونحن لا نرى الآن إلا جثته وقد حفرت في الثلج.
في ما تقدم مثال للكيفية التي تتابعت فيها الأحداث في هذا الفيلم، والبناء المشهدي لتواليها، ولنكون بعد ما تقدم أمام ما يعود بنا في الزمن وتحديداً قبل ثلاثة أسابيع من إصابة ذاك الرجل بالحروق سابقة الذكر، الآلية المدهشة نفسها ستتكرر، نحن الآن قيد التعرف إلى أوين (كودي ماكفي)، ولكن حتى التمهيد سيكون مشدوداً ومتحفزاً، أوين فتى وحيد، مفرط النعومة، يمضي أوقاته في ساحة صغيرة مغمورة بالثلوج تقع أمام بيته، والده ووالدته في طور الانفصال، أمه متطيرة ومتدينة، وأوين يعاني أيضاً اضطهاد طالب في المدرسة يسعى دائماً إلى ضربه ويهزأ به ويسخر من ذكورته الباهتة.
العودة بالزمن لإيضاح قصة الرجل المحروق وكيف أصابه ما أصابه، لن تكون بالعودة إلى قصة ذاك الرجل، بل إلى أوين الذي نمضي وقتاً طويلاً قبل أن تأتي آبي (شلو مورتز) ووالدها للعيش بشقة مجاورة بيته، دون أن يفوتنا التذكير أن الرجل المحروق سيكتب على الدفتر الذي يتركه له المحقق «آسف آبي».
مع قدوم آبي التي تمشي حافية على الثلج ستتشابك قصة أوين مع آبي، وسنعرف أن آبي ووالدها من مصاصي الدماء، والدها الذي لن يكون والدها، لكن هنا ستحضر مجدداً الرغبة بتصوير المشهد الذي نتعرف فيه إلى والد آبي (ريتشارد جينكس) وهو يقوم بقتل أحدهم، كيف يترصد ضحيته وهي تمضي إلى سوبر ماركت، ومن ثم يتمدد في المقعد الخلفي لسيارة الضحية ويتربص به، وقد ارتدى كيساً أسود في رأسه، وكيف سيخرج عليه، بينما تتوقف السيارة أمام السكة التي يعبرها قطار.. ينقض عليه، ثم الكاميرا «زووم آوت» ونحن نرى الحواجز ترفع بعد مرور القطار، بينما السيارة مازالت متوقفة.
لن يكتفي بذلك، بل سيسحب الجثة إلى البرية ويعلقها على شجرة ومن ثم سيثقب رقبتها ويدع الدماء تصب في قمع يوضع في عبوة يريد من خلالها أن يأخذ لآبي حصتها لتتغذى عليها.
سأكتفي بما تقدم من الاستسلام لغواية نقل المشاهد واللقطات بحذافيرها قدر الإمكان، إذ سينعطف الفيلم إلى نسج العلاقة التي ستنشأ بين آبي وأوين، والتغيرات التي لن تطال إلا الأخير، بينما يكتشف ما هي عليه آبي الحقيقية، سيصبح أوين أشد شجاعة، وسيتمكن من مواجهة من يهزأ به في المدرسة، ونعود هنا أيضاً إلى الكيفية التي يحدث فيها ذلك، وصولاً إلى نقطة الالتقاء والكيفية التي احترق بها والد آبي، وغيرها من أحداث ندعها للمشاهدة دون أن نسردها هنا.
فيلم «دعني أدخل» يحمل كل مقومات الفيلم المحكم، المصنوع باتصال بإرث سينمائي لنا أن نجده يحوم في أرجائه، إنه ثاني فيلم لـ«مات ريفيس» بعد فيلم الخيال العلمي الذي قدمه منذ سنتين بعنوان «كلوفر فيلد»، وله أن يكون فيه أشد حضوراً وتميزاً، على الرغم مما كان استوقفني كثيراً في «كلوفر فيلد» من خلال استثماره المميز في كاميرا الفيديو، وتقديمها بوصفها مؤثراً حاضراً بقوة في آلية السرد، الأمر الذي أمسى سمة حاضرة بقوة في الكثير من الأفلام التي نشاهدها هذه السنة.
بالعودة إلى «دعني أدخل»، فإنه أي الفيلم سينعطف إلى الحب، إلى العلاقة العجيبة التي تنشأ بين آبي وأوين، وليكون الدم شاهداً عليها، جماليات الدم إن صح الوصف، الوحشية جنباً إلى جنب مع الرقة، وآبي ببساطة لا تستطيع أن تعيش دون دماء، خصوصاً بعد وفاة والدها أو من يعتبر والدها، وصولاً إلى تحول آبي إلى منقذة أوين في النهاية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news