فيلم رومانك عن رواية إيشغورو
«لا تتخلّ عني».. وإن نهبوا أجسادنا
يترك للجسد أن يستهلك، أن يمر عليه الزمن دون رحمة، يتبدل من يانع إلى ذابل، ومن متقد وضاج بالحياة إلى واهن ومترهل ومملوء بالتجاعيد، لكن وفي تعقب تلك المصائر المحتومة، أليس للمخيلة الإنسانية أن تقودنا إلى تشتيت تلك المصائر؟ أو السؤال ماذا لو قلب التسلسل ووضع الفناء جانباً وإن الى حين؟ كما فعل الروائي البريطاني حنيف قريشي في مجموعته القصصية «جسد» حين ينقل دماغ رجل في خريف العمر إلى جسد شاب في العشرين، ونحن نتعقب ما تصير إليه حياته وهو بعقل وخبرة من في السبعين، بينما جسده في العشرين.
لا بل أدبياً أيضاً سيبدو الجسد مرآة لكل شيء في رواية أوسكار وايلد الشهيرة «صورة دوريان غراي» الذي يوصف أي غراي «ان العالم يتغير لأن الآلهة صاغتك من عاج وذهب، إن خطوط شفتيك تكتب التاريخ من جديد»، كما يرد في الرواية التي جسدت سينمائياً عشرات المرات، بدءا من عام 1915 مع نسخة يوجين مور كفيلم صامت، وصولاً إلى عام 2007 مع نسخة دانكن روي، حيث الجسد سيكون مرآة الروح، الجسد محمولاً على صورة رسم فيها دوريان غراي، فمع كل خطيئة يرتكبها يظهر تجعيد أو تشويه للصورة، وحين يهم غراي بتمزيقها بسكين فإنه سيموت.
لكن ماذا لو كان مكتوباً على الأجساد أن توجد فقط لتهب أعضاءها للآخرين، بشر يولدون وتتم تنشئتهم فقط بغرض أن يتبرعوا بأعضائهم؟ ويكرروا هذا الحالة بما تسمح به أجسادهم، أي أنهم يتبرعون إلى أن يموتوا، كما لو أنهم وضعوا في حاضنات بانتظار أن يكبروا، ومن ثم يتم السطو على أعضائهم وأعمارهم.
سطو على الجسد
الانعطافة نحو الجسد من باب السطو عليه تأتي هذه المرة عبر رواية الياباني كازو ايشغورو التي تحولت إلى فيلم على يد المخرج الأميركي مارك رومانك، بعنوان (Never Let me Go)«لا تتخل عني»، الفيلم الذي يوصف بالخيال العلمي، الأمر الذي له أن يستوقفنا أولاً، كون هذا التوصيف صار فضفاضاً لدرجة صار كل ما هو خيال وبالتالي فن، خيالاً علمياً، بما في ذلك الخيال غير العلمي، الخيال الذي يصطدم بما هو علمي وينحاز إلى الخرافي.
طبعاً كما هو معروف فإن الخيال هو التوصيف المرتبط بالفن الروائي انجليزيا أي«فيكشن»، وإن الإخلال بالخيال بما في ذلك الانزياح نحو التوثيق وضبط الأحداث بمعطياتها وحقائقها سيجعل من الكتاب بعيداً عن الخيال، أو سيرة ذاتية أو ما إلى هنالك من تصنيفات لن يكون لها من وجود في الرواية العربية الراهنة، التي تخضع ربما إلى مقياس واحد متمثل بتجاوز عدد صفحات الكتاب الخمسين صفحة، ومن ثم إلصاق توصيف الرواية عليها، مع التأكيد على انعدام المخيلة، افتقارنا لها بما يطبع في هذه الأيام.
لن نكون في ما تقدم بعيدين كثيراً عما ننوي تقديمه من خلال فيلم رومانك، لكون الرواية المأخوذ عنها الفيلم لها من الشهرة ما يجعل الفيلم مرتقبا لدى معشر قراء ايشغورو، وبوصف الأخير واحداً من أهم الروائيين المعاصرين الذين يكتبون بالانجليزية، وقد عرفناه أيضاً بروايات كثيرة أخرى مثل «عندما كنا يتامى» (مترجمة إلى العربية)، و«بقايا اليوم» التي حولت إلى فيلم من إخراج جيمس ايفوري.
في «لا تتخل عني» سيخوض الجسد صراعه مع الأيام الباقية له على هذه الأرض، الأيام المعروفة مسبقاً بأنها ليست بكثيرة، ومن غير الحب يصعّد من هذا الصراع؟ من غيره سيجعل المسعى الى تأجيل الموت محور ما يبنى عليه كل شيء؟
مدرسة داخلية
مع بداية الفيلم سنكون في مدرسة داخلية، سيبدو كل شيء طبيعياً، إنهم فتية وفتيات يمضون أيامهم في أحضانها، وفي نظام صارم يحرص على بنيتهم الجسدية أكثر من أي شيء آخر، ومن ثم سنقع على تومي وسلسلة خيباته اليومية، وذاك التلعثم الذي يصيبه في أشياء كثيرة، فيبدو عديم الموهبة في الرسم وكذلك بالنسبة لكرة القدم، بما يؤسس لتعاطف كاثي معه، التعاطف الذي سيكون بوابة إلى الحب، والذي يأتي من لحظة منفلتة من الزمن، تتمثل بغضب تومي حين يرفض زملاؤه مشاركته لعبة كرة القدم، معبراً عن ذلك بالصراخ، ولتأتي كاثي من خلفه وتربت على كتفه، فإذا به أي تومي يلتفت إليها ويصفعها دون أن يقصد كرد فعل آلي، يتأسف منها ثم يمضي، ومن هنا ستتشابك المصائر، لكن سرعان ما ستحضر روث وتخطف تومي من كاثي.
سيكبرون، سيبقى هؤلاء الثلاثة لصق بعضهم، بعد أن نعرف وفجأة من معلمة تقوم بتدريسهم بأنهم ليسوا إلا أجساداً تربى لتهب أعضاءها حين تبلغ، ولا مستقبل لهم إلا بذلك، لا بل إن تلك المعلمة حين تخبرهم بذلك فإنهم لن يصابوا بالدهشة ولا الحزن ولا أي شعور محدد، سيواصلون حياتهم كما هي، وستكون فرحتهم بالألعاب التي تأتيهم مستعملة من خلال حملات التبرع شيئاً مبهجاً، وغيرها من المتع الصغيرة، وليتبع ذلك توزعهم على مراكز للتبرع، وهم جاهلون تماماً لكل ما هي عليه الحياة الخارجية. كل من نشأ في تلك المدرسة عليه أن يقوم بالتبرع بأعضائه، وكما يرد في الفيلم فإن المتبرع غالباً ما يفقد الحياة مع التبرع الثالث، وأحياناً من التبرع الأول حسب قدرة الأجساد. ستتركز الأحداث على تتبع تومي البالغ (أندرو غارفيلد) وروث (كيرا نايتلي) التي سرعان ما تعترف لكاثي (كاري موليغان) بأنها خطفت منها تومي بدافع الغيرة، وغير ذلك مما يعيد روث إلى كاثي، لكن مع البحث عن أمل يؤجل موت روث في تبرعه الثاني، الأمر الذي لا يحدث.
الموت مجاوراً للحب
هنا سيمسي الموت مجاوراً للحب كما هو حقيقة، أو كما هو من البداية في الفيلم، والرهان هنا سيكون ميلودرامياً، وفي انعطافة لا تريد أن تكون فجائعية، وهي محملة بكل العناصر المؤدية إلى ذلك، لا بل إن كل شيء في الفيلم سيكون ماضياً بهدوء، والشخصيات تتلقى المصائر كما هي، دون أسئلة عن مصدرها، دون مسعى الى الهرب منها، بل تتلقاها بوصفها محتومة، ولا مناص منها، كما أن الحب المستعاد بين تومي وكاثي، سيكون مسعى الى الاستثمار في الوقت الممنوح لهما لينعما بهذا الحب المؤجل، كما هي الحياة أصلاً بوصفها فسحة أو صفحة سرعان ما تطوى، بما يجعل البناء التخيلي لكونهما من واهبي الأعضاء وأن حياتهما محددة شيئاً شبيهاً لحياتنا، دون أن نسأل لما علينا أن نموت، كما تومي وكاثي وهما لا يسألان لمَ عليهما أن يهبا أعضاءهما للآخرين ويموتا، بينما ينعم الآخرون بالحياة، أليس لحبهما أن يشفع لهما؟ ولتكون الإجابة بلا! دون منطق له أن يكون قادماً بالتأكيد من لا منطق الحياة نفسها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news