فيلم لفرانسوا أوزون

«مزهرية».. حين فارقت الرف إلى حريتها

الفيلم يندرج تحت مسمى «رومانس كوميدي» لكن على الطريقة الفرنسية أو «الأوزونية». أرشيفية

الحياة تتوق لأن تكون رومانسية وكوميدية في آن معاً! مثلها مثل تلك الأفلام التي تندرج تحت هذا المسمى، حيث قصة الفيلم لا تتعدى قصة عاشقين، أو رجل وامرأة في طور العشق، يختلفان في خصال كثيرة، لكن سرعان ما تمسي الاختلافات نقاط اشتراك، وليحدث ذلك في عملية محملة بالمفارقات والمواقف المضحكة التي تمضي جميعاً بخفة ودون أية تعقيدات نحو ما يمنحنا أيضاً كوميديا لطيفة تكون الأداة الأنجح في مواجهة أية صعاب.

طبعاً الاختلاف نمط من الأنماط، إذ يمكن أن نشاهد أيضاً ما يطرأ على حياة شريكين، فيضع الشراكة على المحك، وغالباً ما يكون هذا الطارئ خفيف الظل، شرط قدرته على إحداث هزات خفيفة لما يبدو مسلماً به.

ماذا نريد أكثر من ذلك؟ ربما نريد ايضاً أن تمضي الحياة بخطوات كوميدية رومانسية، وبما يجعلها ايضاً أي حياتنا المعاصرة بحثاً دائماً عن فسحات الضحك، مثلها مثل تلك الأفلام، لا بل إن فعل المشاهدة في العالم تحول إلى حالة ترقب دائمة لفاصل مضحك في الفيلم، مهما كان الفيلم متجهماً، حتى إنه وفي أحيان كثيرة ومن جراء الترقب المتواصل للمضحك، يحدث الضحك في ما لا يضحك.

ما تقدم يمتد ليشمل المسلسلات التلفزيونية الأميركية وغيرها مما لنا أن نقع عليه متى ضغطنا على جهاز التحكم، وهناك جيش من العاملين في هذا المجال لن يخيبوا أي متطلع لهذا النمط من الأفلام أو المسلسلات.

«رومانس كوميدي»

لكن ما الذي نمضي خلفه من وراء ذاك التقديم الطويل؟ سؤال يمكن الإجابة عنه من خلال فيلم للفرنسي فرانسوا أوزون بعنوان «مزهرية» يستدعي التوقف عنده ليس لأن الفيلم من إخراج أوزون فقط، لكن في منحى آخر له أن يضعنا مباشرة أمام ما يمكن أن يكون عليه فيلم يندرج تحت مسمى «رومانس كوميدي» لكن على الطريقة الفرنسية أو«الأوزونية»، وفي ذلك ما يقودنا إلى كون الفيلم تنطبق عليه صفات ما تقدم ولكن مع اختلافات كثيرة، لها في النهاية أن تكون محملة بكل ما له أن يكون استثماراً بالتاريخي والنسوي دون أن يفقد الفيلم أياً من الرومانسية أو الكوميديا.

يقصد بالمزهرية هنا المرأة التي توضع على الرف كما لو أنها مزهرية لا شيء تقوم به يتعدى كونها أداة للزينة، لا فائدة ولا نفع لها، لا بل إنها في الفيلم خالية من الزهور أيضاً. هنا ستطالعنا كاترين دونوف بدور جديد لها، ودائماً بما يجعلها في خضم دور مهم لأنها هي من تلعبه، وسيكون إلى جانبها أيضاً ذاك الرائع الذي اسمه جيرارد ديبارديو، وبما يدفعنا للقول حسنا كلاهما في فيلم واحد هذا يعني أن نصف الطريق إلى فيلم جميل قد أصبح محققاً ومنجزاً، وهو كذلك، ولتكون الكوميديا على قدر خاص وجميل ومضحك في آن معاً.

حياة موازية

يتمركز فيلم «مزهرية» حول سوزان (دونوف)، نقع عليها من البداية وهي تمارس رياضة الركض صباحاً في الغابات، تقع على سنجاب فتكتب في دفترها الصغير عنه، وهي تحاول طيلة الوقت كتابة خواطر ستكون مضحكة أكثر منها شعرية، وإلى جانب ذلك يحضر زوجها روبرت (فابريك لوتشيني) الذي يدير معمل مظلات ورثته سوزان عن والدها، وليكون روبرت زوجاً صلفاً ومتعجرفاً، لا يأبه بسوزان ولا يفكر إلا بعمله الذي يديره بغرور وعنجهية. كل شيء سيوحي بداية بأن سوزان ليست إلا ربة بيت، حياتها متوقفة، لديها أوقات فراغ مترامية تملؤها بكل تستحضره من محيطها الصغير، لديها ابنة وابن وحفيد، والحياة مستقرة إلى حد ما.

حدث واحد سيفتح الباب على مصراعيه أمام تغير سوزان الدرامي، بما يتعدى التغيير إلى الوقوع على حياة موازية لحياتها الظاهرة، حياة مملوءة بالأسرار والعلاقات. سيكون الحدث متمثلاً بإضراب عمال معمل المظلات عن العمل، ومن ثم احتجاز زوج سوزان من قبل العمال من جراء تعامله معهم بفوقية وصلافة، وعدم توفير مرحاض لائق، حينها ستفتح سوزان دفاترها القديمة وتلجأ إلى موريس (جيرارد ديبارديو) الذي يكون عمدة المدينة اليساري، والذي تثق به الطبقة العاملة بوصفه رمزاً من رموز النضال الاشتراكي، كما أن منصبه لم يكن إلا بالأصوات الانتخابية للعمال والفقراء.

موريس حبيب سوزان السابق، ومع معرفة ذلك ستتوالى الاكتشافات، سنعرف أن سوزان متعددة العلاقات، وأن زوجها الذي لا يجدها إلا مزهرية ويمضي يعبث مع مساعدته لا شيء أمام ما تعيشه وعاشته سوزان، وكل ذلك سيقدم كوميديا جميلة لن تكون مجانية أبداً فسرعان ما يمسي انقاذ سوزان لزوجها وإصابة هذا الأخير واضطراره للسفر لتلقي المعالجة، فرصة سوزان الحقيقة لتتحول إلى انسانة جديدة.

ستكسر المزهرية، ستتولى إدارة المعمل وستحقق نجاحاً خارقاً بمساعدة ابنها، وستكسب ثقة العمال وتمضي من نجاح إلى آخر، وحين ينجح زوجها بالانتصار عليها واستعادة إدارته للمعمل، فإنها ستنتقل إلى العمل السياسي، وسنتنصر أيضاً على تحالف زوجها وعشيقها السابق ضدها.

معادل تاريخي

كل ما تقدم سيبدو عادياً جداً، وليس إلا موعداً مع مواقف طريفة ومضحكة، إلا أن ذلك لن يكون كذلك أبداً، سيكون لكل ما تقدم معادله التاريخي والنضالي، بمعنى أن الفيلم الذي تجري أحداثه في سبعينات القرن الماضي سيكون محملاً بكل ما ساد تلك الفترة من أفكار، لن يكون موريس إلا تكثيفاً لليسار الفرنسي، ولن تكون سوزان إلا تكثيفاً أيضاً للنسوية، فالفيلم في النهاية انتصار لإرادة المرأة الحرة، التي تنجح في النهاية بأن تكون عمدة مدينتها، بعد أن كانت مجرد مزهرية في البيت.

هنا سيكون علينا أن ننهي بما له أن يوصف الفيلم بالرومانس الكوميدي الذي يحمل رهانات أخرى، بمعنى أن المآزق الطريفة التي تعيشها سوزان وعشاقها لن تكون إلا استثماراً بالمرحلة التي يقدمها الفيلم، إنها خيبات اليساري موريس ونجاحاته، حرية المرأة بفعل ما تشاء بعيداً عن وصاية الذكر، تحقيقها لذاتها ضمن سياق تاريخي وكل ذلك دون أن تفارق الكوميديا الفيلم لحظة واحدة.

تويتر