«العم بونمي».. النوم بعيـون مفتوحة
هناك ثور هائج راكض في البرية، تقول لنفسك: أنا في حلم بالتأكيد! الحلم هنا يجري في فيلم، لكن من بمقدوره غير السينما أن تجعلنا نصدق أن ما نراه هو حلمنا؟ من غيرها قادر على أن يجعلنا على هلع وترقب لا نرى في الظلمة التي تحيط بنا إلا الشاشة التي سرعان ما تضعنا أمام حيوات لها أن تصير حيواتنا الخاصة وإن كانت قادمة من تايلاند.
الحلم يجري في فيلم «العم بونمي الذي يستطيع استحضار حيواته السابقة»، ولست متأكداً من أنه حلم بعد، فسرعان ما سيحضر عنوان الفيلم نفسه أي أننا أمام حيوات العم بونمي المستعادة، ويبقى السؤال أيضاً أي من هذه الحيوات يحدث الآن ما دام الخط الفاصل ما بين الحاضر والماضي لا وجود له في الفيلم، كما أن الأسطوري والواقعي ممتزجان إلى الحد الذي يدفع إلى الابتعاد عن الفصل بينهما، كما هو الحال مع التاريخي والشخصي.
وعلى شيء من العدوى لن أفصل بين الشخصي والنقدي مع مقاربة فيلم «العم بونمي» للمخرج التايلاندي أبيشاتبونغ ويراسيتاكول الحائز على سعفة كان الذهبية في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» والذي سيعرض في الدورة السابعة من مهرجان دبي السينمائي ضمن مسابقة «المهر الآسيوي الإفريقي»، بما يتيح فرصة جميلة للتعرف إلى مساحة تجريبية جديدة يقترحها الفيلم، لنا أن نضيء عليها في ما يلي.
أعود إلى الحلم، الكلمة المفتاح في فيلم جو «لقب أبيشاتبونغ ويراسيتاكول» وعلى شيء يجعل من كل استعادة فعلاً حلمياً، وليكون المدهش هو الاستثمار في الطبيعة والمؤثرات السمعية والبصرية التي لن تكون إلا التصاقاً بها، سنكون بصدد 20 أسلوباً سردياً في الفيلم، هكذا يقول جو نفسه في لقاء نشر في العدد الأخير من مجلة Sight & Sound, لا أعرف مدى دقة الرقم لكن الفيلم في النهاية مجموعة أفلام في فيلم.
الرهان بصري بالمطلق، الإيقاع بطيء، اللقطات متوسطة الطول، ثمة عناية فائقة بالتقاط نبض الطبيعة والأدغال، جو يقول إن بونمي الحقيقي كان يرى كائنات الماضي على هيئة حيوانات كما سنرى في اللقطة الافتتاحية من الفيلم، إذن ليس حلماً بل واحدة من طرق بونمي باستعادة الماضي، يقرأ جو بعد وفاة بونمي الحقيقي كتابه الذي كان عنوانه عنوان الفيلم ، وليظهر في الفيلم مصاباً بفشل كلوي أصيب به والد جو في بلاد مسكونة بالأشباح حسب تعبيره.
يعايش بونمي الحاضر والماضي معاً جنباً إلى جنب، البشر الذين ماتوا ورحلوا مع من لايزالون على قيد الحياة، ابنه المتوفى وقد تحول إلى كائن أسطوري أشبه بالغوريلا بعيون حمراء تلمع في الليل، زوجته المتوفاة مع أخته التي مازالت على قيد الحياة، مع شحن تلك الاستحضارات برموز ودلالات مفتوحة على التأويل، سنكون مشغولين عنها بكيفية بنائها، عوالمها، هذا المونولوج المدهش الذي يردده العم بونمي حين يمضي برفقة البشر الأموات والأحياء إلى مغارة ويقول «أنا نائم لكن عيناي مفتوحتان» ولتحضر فصائل مسلحة، وتظهر الكائنات الخرافية التي تلبست ابنه مجدداً، تحيط به من كل جانب وعيونها حمراء في الليل، هذه الكائنات ستظهر وهي تتوسط الجنود في صورهم الفوتوغرافية، سيقول بونمي الذي يعاني فشلا كلويا، «لقد أصبت بهذا المرض عقاباً على العدد الكبير من الشيوعيين الذين قتلتهم، أو البعوض الذي أقتل منه العشرات يومياً»، عبارة تقول ما تقول بخصوص صراعات شهدتها تايلاند، وحين يموت بونمي، وتحضر شخصية ذلك الكاهن البوذي، تبقى الأسئلة معلقة كأن نتساءل: وهل هذا الكاهن هو بونمي في شبابه وقد ورثت أخته هذه القدرة الخارقة على استحضار الماضي؟ أم أنه رمز آخر لكاهن يعشق ارتداء الجينز ويستخدم الهاتف النقال ويشاهد التلفاز بعيداً عن الرداء البرتقالي وحياة التقشف التي تحاصره، دون أن يفوت يراستاكول استحضار الأسطورة أيضاً ونحن نرى تلك الأميرة وهي تغوي خادمها ومن ثم تسلم نفسها للبحيرة لتمارس الحب مع الأسماك. في ما تقدم شيء مما حمله الفيلم الذي سبق أن كتبته لدى مشاهدتي إياه في «كان»، والذي أخذني إلى عوالمه من اللقطة الأولى، ولعل قرار المخرج تيم بورتون (رئيس لجنة التحكيم في دورة «كان» الثالثة والستين) بمنحه السعفة كان بمثابة مكافأة للتجريب، للمغاير، مهما بدا مستعصياً وغامضا وملتبساً لدى البعض، دون أن يكون كذلك إن كان الانحياز للصورة ومجازاتها وجمالياتها، وليحضر هنا الدور الذي على مهرجان بحجم «كان» أن يلعبه، ألا وهو الانحياز للجديد، تبني ما له أن يكون أصيلاً وفريداً، بعيداً عن تبني ما هو متفق عليه ومعد سلفاً، ثم إن مهر أي فيلم بختم «كان» سيجعله متداولاً، ولا شيء أجدى من استخدام قوة الماركة أو «البراند» للترويج للإبداعي المختلف، وعلى شيء من تشجيع التجريب. جو يأتي السينما من باب التشكيل، إنه شخص انطوائي كما يقول عن نفسه في اللقاء سابق الذكر، «لن أعرف ما الذي علي أن أفعله بين مجموعة من الأشخاص، لكن إن وضعت كاميرا أمامي فإنها ستتحول إلى أداة للتأمل، ستكون مفكرتي ووسيلتي للتواصل مع الآخرين»، يأتي جو السينما من «الفيديو آرت» يصنع أفلاماً ويضعها على موقعه الإلكتروني ، وقبل «العم بونمي» قدم خمسة أفلام منها «متلازمات وقرن من الزمن» و«أنت بسعادة»، يتحدث عن علاقته بالسينما وكيف راح يشاهد كل ما يقع عليه من أفلام، ولدى انتقاله مع والديه إلى بانكوك، شاهد فيلم «ثمانية ونصف» فيلليني «لأن مثل هذه الأفلام لم تكن متوافرة، فقد شاهدت فيلم فيلليني مئات المرات حتى إنني أحفظ كل لقطة من لقطاته». شاهدت فيلم «العم بونمي» وأنا لا أعرف أي شيء عن الفيلم أو مخرجه، ولعل أجمل ما يحدث هو أن تقع على لقية بهذا الحجم دون أي إعداد مسبق، وبالقدر نفسه لست على معرفة بتاريخ تايلاند الذي تعرفت إليه بالمجازات لا بالأحداث والوقائع من خلال الفيلم، بما كان أيضاً على قدر كبير من الإلهام عند التفكير بما يقابل المجازات التايلاندية من مجازات عربية، لكن من يناصر مثل هذه السينما في عالمنا العربي؟ سؤال يتمنى الإجابة عنه بفيلم تشاهده دون أن ترى مصدر كل لقطة أو مشهد، وعلى شيء من النسخ.