جديد إيناريتو في «دبي السينمائي»

«بيوتيفول».. الجمـال الصارخ من القاع

إينارتو يرصد عوالم برشلونة السفلية. أرشيفية

يراد للحياة أن تكون عاصفة، هكذا هي حين نمضي إلى العوالم السفلية من المدن، حين يكون الاكتشاف انغماساً في الهامشي والمنبوذ، عند الحدود، مع المهاجرين، مع أولئك المنسيين، ومعهم بعيداً عن حياة معقمة لها أن تتعامل مع كل ما يخل برفاهيتها كجراثيم، وهنا سيحضر إيقاع مغاير عن حياة محايدة.

لكن تبقى الحياة جميلة على الدوام، ثمة مساحات متروكة لتعلم هذه الكلمة في فيلم «بيوتيفول» Biutiful جديد المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو الذي تحمله الدورة السابعة من مهرجان دبي السنيمائي هذا العام، ضمن أفلام برنامج «سينما العالم» وعلى شيء يجعل من ذلك فرصة للتعرف إليه لا تتيحها كما عودتنا دور العرض المحلية.

يأتي عنوان الفيلم مما له أن يكون محاولة من شخصية الفيلم الرئيسة لتعليم ابنه نطق هذه الكلمة، وبعيداً عن اللفظ الانجليزي السليم، بل بلكنة اسبانية، ومعها أيضاً وعلى شيء من محاولة أخذ العنوان إلى مساحة نجدها متناغمة مع ما سنشاهده في هذا الفيلم، فعوالم الفيلم تتركز حول قباحة الحياة، على قسوتها التي لا تعرف الرحمة بالفقراء، والسرد يأتي دائماً من الطبقات السفلى، من المآزق التي تطال العيش وسبله.

في ما يلي عودة إلى فيلم ايناريتو مجدداً بعد أن تناولته لدى عرضه في الدورة الـ63 من مهرجان كان، وعلى مطمح له أن يضع أمامكم هذا الفيلم في سياق أفلام إيناريتو.

يخرج إيناريتو في جديده من تلك الخطوط المتشابكة والمتداخلة في أفلامه، لا يريد أن يلعب بالزمن، يمضي في خط واحد مستقيم. لن نشاهد هذه المرّة كلباً نازفاً، في سيارة تمضي بسرعات جنونية وهناك من يتعقبها، كما في فيلم «الحب كلب» (2000). ولن نسمع من يقول لنا إن كل ما نعيشه لا يزن أكثر من «21 غراماً» (2003) أي ما يعادل «نكلة» أو «قطعة شوكولا». ولن نشاهد تلك البندقية في «بابل» (2006) التي تكفي طلقة واحدة منها كي تتشابك مصائر شخصيات بين المغرب وأميركا والمكسيك واليابان. جديد إيناريتو «بيوتيفول» يأتي من برشلونة هذه المرة. في اللقطة الافتتاحية من الفيلم، سنرى أوغزبال (خافيير بارديم) يخرج خاتمه من إصبعه ليضعه في إصبع ابنته، ونحن لا نرى إلا أياديَ مرفوعة، ثم يمضي في غابة مغمورة بالثلوج تطالعه فيها بومة ميتة، ويسمع نداءً سيلبّيه بالتأكيد.

الشخصيات التي تزدحم بها أفلام إيناريتو (1963) تختزلها شخصية واحدة هذه المرة، إنه أوغزبال. ومَن غير خافيير بارديم ليجسّدها وينال عنها جائزة أفضل تمثيل في الدورة الـ63 من «مهرجان كان السينمائي»، مَن غيره، وقد قال إيناريتو نفسه إنه طوال كتابته الفيلم، كان بارديم هو أوغزبال، والعكس صحيح. وهو الذي قال أيضاً «أنا وبارديم مثل جائع للكمال التقى بمن يتضوّر جوعاً إليه».

يمضي «بيوتيفول» في خطّ درامي واحد يتعقّب مصير شخصية أوغزبال ومحيطه. ليس هناك من تشعبات وتداخلات في الأزمنة، ولا تستند الأحداث إلى حدث رئيس مدوّ، سرعان ما تتداخل من خلاله مصائر شخصيات كثيرة وخطوط درامية أخرى، كما في أفلامه السابقة. الرهان هنا على شخصية واحدة يجري تشريحها من خلال أفعالها وتحرّكاتها. إنّه التركيز على أوغزبال ذاته، وحياته في مدارات عدة، من بينها علاقته بأولاده. هذا الأب يتبول دماً، وسرعان ما يكتشف مرضه بسرطان البروستات.

يلعب دور الأب والأم مع ابنه وابنته، وفي تأرجح دائم بين النجاح والفشل. تأرجح يشبه علاقته مع زوجته السابقة المأزومة التي ما إن يبعدها عن ولديها حتى يعيدهما إليها، وهي تقترف من الحماقات ما يجعله حريصاً على مسافتها معهما، ثم استجاباته المتناوبة لأمومتها التي سرعان ما تضرب بها عرض الحائط.

الفيلم الذي كتبه إيناريتو بنفسه، يجعله بعيداً عن الكاتب والسينمائي غيليرمو أرياغا، كاتب سيناريوهات أفلام إيناريتو الثلاثة المذكورة سابقاً، إلا أنّ إيناريتو يقترب هنا بشكل أو بآخر مما صنعه مع أرياغا، من دون أن تتنقل الكاميرا بين أربع قارات كما في «بابل»، ولا أن يكون فيلم «21 غراماً» بؤرة درامية للسيناريو يقول فيه كلمته الفصل، وحيث الزمن يظلّ متصلاً ومنفصلاً، مستعاداً ومتقدماً، وهو الأمر الذي يمتد إلى باكورة إيناريتو «الحب كلب» حيث الإيقاع لا يمنحنا فرصة لالتقاط أنفاسنا.

في «بيوتيفول» ملامح أو لمسات مما سبق، وهو يمثّل في النهاية أسلوب إيناريتو المحكم. صحيح أنّ الفيلم يسير في إيقاع أقل توتراً من الأفلام السابقة، لكنه مشدود ومتحفز، من دون أن تفارقه همومه الإنسانية المتخطية للقارات، والعوالم السفلية باعتبارها المعبر الأدق والأعمق لاختبار المدن وعلاقات البشر فيها. في هذا الفيلم، نحن على اشتباك مع عوالم برشلونة السفلية، وتحديداً بلدة سانتا كولوما التي ستبقي إيناريتو على اتصال بتقديم سينما تتخطى العرق واللغة كما في «بابل»، إذ إنّ أوغزبال يقطن «التشرينغو» وهو حي خليط يسكنه المهاجرون الفقراء وأولادهم ويضم كل الأعراق من الصينيين والعرب والإندونيسيين، إضافة إلى هؤلاء الذين هجّرهم فرانكو من كاتالونيا في عام .1930 إذاً، نحن هنا أمام خليط اجتماعي وثقافي وقع في غرامه إيناريتو، كما وقوعنا في غرام الفيلم.

البيئة التي تجري فيها أحداث الفيلم مركزية، يعمل أوغزبال في استيراد العمالة الأجنبية «غير الشرعية» إذ الصينيون هم الأكثرية. من هنا، سنشاهد دراما مجاورة لدراما أوغزبال وعائلته، سرعان ما تشتبك معها، هو الذي نشأ وترعرع في حضن هذا الخليط العرقي، يسعى إلى أن يكون إنسانياً معهم بالقدر المتاح، ونحن نرى كيف تتعامل الشرطة الإسبانية بعنف ووحشية مع باعة الطرق الأفارقة، وكيف يُرحّل صديقه إلى إثيوبيا، بينما يأخذ زوجة ذلك الصديق وابنه ليعيشا معه، فتمسي سنداً له أكثر مما هو بالنسبة إليها، حين تتحول إلى ممرضة ترعاه وهو يحتضر.

سيتداخل مصير أوغزبال الشخصي مع مصائر المهاجرين، وسيطال التصعيد كل المصائر، ويبقى اختناق العمال الصينيين الذين يشرف عليهم ذروة أحداث الفيلم والمنعطف الأكبر. سيحتضر أوغزبال بعدما شهد بأم عينيه كيف مات كل الصينيين في القبو، حيث كانوا ينامون نساءً ورجالاً وأطفالاً، والسبب مدفأة تعمل على الغاز اشتراها لأنها الأرخص، وسيموتون بسببها جميعاً وهم نيام مختنقين بالغاز.

أوغزبال يحتضر، فيما البحر لا يتوقف عن لفظ جثث المهاجرين إلى الشاطئ. كنا أمام مصير رجل بمفرده يصارع الموت، لكن في الوقت نفسه ماذا عن أولئك الذين يموتون جماعات؟ كما لو أن الفيلم يسألنا ذلك وإن كنا في النهاية لن نشاهد إلا أوغزبال وهو يلبي ذلك النداء الذي بدأ به الفيلم.

تويتر