جورج كلوني قاتلاً وعاشقاً
«الأميركي».. حـب كــاتم للصوت
هناك دائماً أعباء القلب، وإن كان القلب قلب قاتل. لا بأس من هكذا خلاصة، وإن كان استخلاصها أمرا محاطا بالعبث، لكن من قال إن العبث ليس مما يحيط بالأفعال قاطبة إن أردنا أن نكون عبثيين؟ ثم ماذا علينا أن نفعل إن كان الفعل - أي فعل - على شيء من التورط، كأن نكون ولدنا ولم نجد أنفسنا إلا ونقوم بما نقوم به، كأن يكون الانسان قاتلاً مثلاً لكنه عاشق، قاتلاً بقلب لا يعرف الرحمة، بقلب سرعان ما يشف ويرق ويحب وإن كان إصبعه على زناد المسدس، وهو لا ينام مخافة أن يأتي أحدهم ويقتله وهو نائم.
القلب إذن بوجهين كما العملة المعدنية، إنه تماماً قلب جورج كلوني في فيلمه The American (الأميركي)، أو باسمين هو الذي نعرفه بداية باسم جاك ثم يصير ادواردو، لكن لمَ هذه الازدواجية؟ والإجابة ببساطة لأن جاك قاتل محترف، نقع عليه من البداية وهو مطارد، يخرج من البيت النائي الذي يتقاسمه مع امرأة إلى الثلوج التي تحيط بهما من كل جانب، تقول له المرأة حين تعثر على آثار خطوات: «إنه دب»، فالمكان معزول لدرجة لم تفكر فيها بأن انساناً قد يأتي إلى هنا، لكن جاك سرعان ما يعرف بأنه ليس بدب، بل إنسان يلاحقه، ومن ثم يبدأ بإطلاق النار عليه، وسرعان ما ينجح جاك بقتل الساعي إلى قتله، لكنه سيقتل المرأة التي كل ذنبها أنها كانت شاهدة على ما حصل.
حرفي بالفطرة
ليس فيلم «الأميركي» من تلك الأفلام التي نشاهدها على الدوام لا شيء فيها إلا القتل لمجرد القتل، والقاتل المحترف أو المأجور لا نتعرف اليه إلا وهو يقتل، وكل ما يشغل الفيلم تصوير كيف يقوم بذلك، والتنويع في الطرق والمآزق. لن يكون ذلك شاغل فيلم «الأميركي»، والرهان سيكون كاملاً على شخصية القاتل، وما يعيشه من قلق وهلع وخوف، إنه الأميركي الذي لا يعرف شيئاً عن التاريخ كما سيقول له كاهن القرية الإيطالية التي يلجأ إليها جاك، «لا شيء تعرفه إلا الحاضر»، كما سيضيف الكاهن. إنه عن رجل ليس بفنان كما سيعرف عن نفسه في القرية بوصفه مصوراً فوتوغرافيا، إنه حرفي بالفطرة، يستطيع تصنيع الأشياء دون سابق خبرة نظرية، نشاهده كيف يمضي إلى ميكانيكي ويأخذ من عنده قطعاً معدنية ويصنع منها كاتم صوت.
طوال فيلم «الأميركي» تشعر بأنه ليس بفيلم أميركي، الأسلوب مختلف تماماً عما تطالعنا به هوليوود على الدوام، ما من تلك الزوايا الحادة في التصوير، الإيقاع هادئ، والتوتر الذي نعيشه مع جاك يأتي على مهل، وغالباً ما يكون من أعماق الشخصية، التشويق لا يرمى هنا وهناك بما يجعله كل مطمح الفيلم، يمكن لدراجة نارية أن تمر بجانب جاك فتصدر عنها فرقعة فيحسب أنها طلق ناري، وسرعان ما يعيد استثمار ذلك عندما يهم أحدهم بملاحقته، ومن ثم نكتشف أن مخرج الفيلم ألماني هو انطون كوربيجن، لم يسبق وشاهدت له فيلماً، لا بل يمكن اعتباره مخرجاً جديداً، وفي مسيرته بضعة أفلام تسجيلية عن الموسيقى، بما يدفع الى القول: بداية موفقة بالتأكيد.
وفي سياق موازٍ، فإن كلوني يقدم في هذا الفيلم واحداً من أهم أدواره، ولعله من أهم أدوار هذه السنة إلى جانب ما شاهدناه من أفلام أخرى. على كل، الفيلم أولاً وأخيراً هو عن ذاك الأميركي، القاتل الأميركي بحيث يتمركز كل شيء على أداء كلوني المميز والاستثنائي.
لجوء إلى إيطاليا
قصة الفيلم ليست إلا لجوء جاك إلى ايطاليا واستعداده لتنفيذ مهمة أخرى، وأثناء ذلك سيكون علينا تعقبه وهو يمضي حياته في ربوع قرية هادئة، متجنباً إقامة أية علاقات مع سكانها، لكن يبدو الأمر مستحيلاً، ونحن نرى الصداقة التي تنشأ بينه وبين الكاهن، ومن ثم فإنه يحذر من الوقوع في الحب، لئلا يكون مصير من يحب مماثلاً لتلك التي اضطر إلى قتلها وصارت تحتل أحلامه، لذا يلجأ الى بنات الليل، لكن يا له من غرام سيكون بانتظاره، لا بل إن القلب القاسي سرعان ما يشف ويرق وهنا المنعطف، هنا ما سيجعل من هذا الأميركي الذي يدخل القرية في نفق مشكلاته، شخصاً آخر، وصولاً إلى النهاية التي تأتي محكمة ومتقنة، دون زيادة أو نقصان، دون مبالغات، كما هو الحال مع كل ما حمله الفيلم وأنت تنقب عن خلل قد يطال لقطة من اللقطات، وكل ما يتتابع من مشاهد ولقطات تمضي على تناغم، وتحت إملاءات بناء محكم.
أنوثة مدجّجة
انغريد (ايرينا جورغلاند) بنت الليل التي يلجأ إليها جاك - أو ادواردو كما تناديه - ستكون مدججة بالأنوثة، ستسرق جاك من نفسه، دون أن يتخلى هذا الأخير عن حذره، ونحن نراه كيف يأخذها إلى النهر وهو ينوي قتلها بعد أن عثر على مسدس صغير في حقيبتها، لا بل إن شيئاً لن يمنعه عن فعل ذلك وهو المسكون بها، والتي كما سنراه ودون أن يتكلم متيماً بها، وفي هذه اللحظات التي تسبق اقدامه على قتلها، سنعيش مع أداء كلوني كل مشاعره المتضاربة، كل صراعاته النفسية العميقة، بين أنها تشكل خطراً عليه، لكنه وفي الوقت نفسه عاجز عن قتلها، إلا أن المشرق بالأمر سيكون باكتشافه أن استنتاجاته ليست صحيحة. في البحث عن الأفلام التي يلتقي معها «الأميركي» لا أعرف لمَ كنت أفكر دائما بفيلم أورونوفسكي «المصارع»؟ ربما لأن التمركز حول شخصية بعينها وثمن خياراتها، وربما ايقاع الفيلم نفسه، وليس «مستر ريبلي الموهوب»، كما فعل نيك جيمس في قراءته للفيلم في «سايت آند سوند»، ولعله في المقارنة التي قدمها يقدم مثالاً على القراءة السياحية للفيلم، بمعنى بناء المقارنة من باب أن الفيلمين يجريان في ايطاليا وكلاهما عن قاتلين، أو ربما من خلال أغنية «لي تاليانو» التي نسمعها في كلا الفيلمين، ثم إن هناك في قراءة جيمس أمراً استوقفني كثيراً، ألا وهو البحث عن وضع جاك في سياق تاريخي كالحرب الباردة أو غير ذلك، مثلما هو الحال مع «كارلوس» أو فيلم سبيلبيرغ «ميونخ»، ولنقول هنا، حسنا أن الفيلم لم يفعل! لأننا كنا انشغلنا عنه بأشياء أخرى خارج الفيلم. سيترصد الموت جاك، ينجو أو لا ينجو منه! مسألة متروكة لمن يشاهد هذا الفيلم، لكن النجاة ستكون لا شيء أمام انتصاره للحب، لكن كيف للعاشق أن يعشق ما لم ينجُ بحياته؟
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news