من أفلام «المسابقة الوثائقية» في المهرجان
«أبي من حيفا».. سارقو الذاكرة وقتلة الآباء
أبي يخاف العودة! كيف له أن يعود إلى حيفا وقد كان في التاسعة من عمره حين غادرها محاصراً بالخوف؟ الإسرائيليون في فيلم آخر قتلوا والدي في أثينا، بينما كنت في حضنه، جاءت دراجة نارية وتوقفت بجانب السيارة التي تحملنا، وأطلق علينا النار رجل يرتدي خوذة.
بينما الأب الثالث فقد كان هناك، ينصت ويراقب لكل ما يحدث حوله وهو يحلق شعر رجالات الدولة والحكم، إنه في خريف العمر، يده مرتجفة، وما عاد يقص الشعر ويشذب اللحى، لكنه سيفعل أمام الكاميرا كما لو أنه يستعيد كل ما عاشه وعاش منه.
من الواضح أن كلمة «الأب» ستكون صلة الوصلة بين الأفلام التي نعرض لها في ثالث أيام كتابتنا عن أفلام الدورة السابعة من مهرجان دبي السينمائي، وهي هذه المرة ثلاثة أفلام مشاركة في مسابقة «المهر العربي» للأفلام الوثائقية، اجتمعت على ما يمكن للأب أن يصيغه من تاريخ، ولعلها تستعيد أيضاً قطعة تاريخ كبيرة لنا أن نجدها تتحرك من خلال هذه الأفلام بين فلسطين ولبنان والدنمارك وسورية.
فيلم الدنماركي عمر الشرقاوي المولد لأب فلسطيني، سيقودنا من عنوانه «أبي من حيفا» إلى ذاك الأب، إلى علاقته، أي عمر، مخرج الفيلم مع والده منير الشرقاوي، الذي تتمركز حياته حول لحظة تاريخية معممة على مئات آلاف الفلسطينيين المشردين في أصقاع الأرض، ومن ثم الملايين، طالما نتكلم عن أجيال ولدت وعاشت ولم ترَ فلسطين لمرة واحدة، عمر الشرقاوي واحد من هؤلاء، يرى والده مأزوماً على الدوام، محملاً بماضٍ له أن يكون حاضراً على الدوام، ويحمل آثاره على جسده من خلال التشوهات التي لحقت بأطرافه حين كان مقاتلاً في صفوف الثورة الفلسطينية، قبل أن يأتي إلى الدنمارك ويتزوج من دنماركية، وعمر هو أكبر أبنائه.
كل ما تقدم ليس إلا مما سنتعرف إليه في الفيلم، المصنوع بإيقاع متناغم مع ما يتجول في أعماق الأب. اللقطات غالباً تكون قريبة، وكثيراً قريبة جداً، لا بل إن أمراً يستدعي نفسه لدي عند مشاهدة هكذا فيلم يتمثل بمدى ثراء الشخصية التي يقدم لها، وقدرتها ونحن نتكلم عن فيلم وثائقي، أن تكون في مواجهة الكاميرا على هذا القدر من الإقناع والاتساق، كما هو منير الشرقاوي ونحن نمضي معه برفقة ابنه عمر، ونقع عليه في أداء لما يسعى الفيلم إلى توثيقه، ثم إن المادة الوثائقية المكونة من الصور وأدوات أخرى، تأتي في نسيج له أن يكون روائياً، وفي بنية مونتاجية تجعل إيقاع الفيلم قادراً على أخذنا إلى حياة الأب والابن وعلاقتهما، وبالتأكيد إضاءة المشاعر المتضاربة والمتصارعة المتأتية من قلق الأب من العودة إلى حيفا، حياته في الدنمارك، آرائه في ما وصلت إليه القضية الفلسطينية ونحن نسمعه في دمشق يقول «فلسطين لن تموت، ولدتني ودخلت في غيبوبة الآن.. ستستيقظ منها».
فيلم «أبي من حيفا» يقول لنا ما الذي يعنيه أن تكون ابناً لأب من حيفا، فضول الابن لمعاينة حياة والده المستلبة عن كسب، ومن ثم تقديم سيرة الأب، الذي سنشاهده يمضي إلى دمشق أولاً حيث يسكن أغلب أفراد أسرته، علاقته مع هذه المدينة التي يعشقها، وهو يقول عنها: كم كانت رحيمة ومضيافة للفلسطينيين وهي تعاملهم معاملة السوريين، هناك سيزور قبر والده في مشهد مؤثر ومؤلم، وصولاً إلى زيارته حيفا، وطبعاً بجواز سفر دنماركي يتيح له البقاء 10 أيام في بلده المسروق منه، وزيارة البيت الذي هجّر منه منذ أكثر من 62 سنة.
«صورتي وأنا ميت»
الفيلم الثاني الذي نقدم له هنا، له أن يكون على اتصال مع «ابي من حيفا» من حيث أنه عن علاقة ابن فلسطيني مع والده الذي اغتيل على مرأى منه، إنه جديد الأردني المقيم في هولندا محمود مساد «هذه صورتي وأنا ميت»، القادر دائماً على تقديم أفلامه الوثائقية على طريقته الخاصة، وليروي ويوثق هذه المرة مقتل القيادي الفلسطيني مأمون مريش على يد «الموساد» الاسرائيلي، وليكون السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف؟
الإجابة عن هذا السؤال، ستكون بمثابة الفيلم، كل الفيلم، بدءاً من عنوانه أي «هذه صورتي وأنا ميت»، كون الفيلم هو عن ابن مأمون مريش، أي بشير مريش الذي كان بحكم الميت لدى اغتيال والده في أثينا عام ،1983 هو الذي كان جالساً في حضنه حين أقدم القاتل على اطلاق النار، وقد تناقلت وسائل الإعلام نبأ وفاته وقد كان في الرابعة من عمره، وعليه سيكون الفيلم صورة لبشير بوصفه كان بحكم الميت، بينما عمره في الفيلم 29 سنة.
بداية الفيلم ستكون مع موسيقى أعياد الميلاد، وتشكيل بصري يجعل من القنابل العنقودية التي ألقيت على غزة في عملية «الرصاص المصهور» بديلاً عن أضواء شجرة الميلاد، ولكم أن تتخيلوا الأجراس والموسيقى والغناء بينما تضيء تلك القنابل اللئيمة ليل غزة، الأمر الذي سيكون على اتصال مباشر مع نهاية الفيلم، ونحن نمضي مع بشير وهو ينبش في تاريخ والده النضالي، من خلال من تبقى من أصدقائه. كيف كان المخطط الرئيس لعملية دلال المغربي، قصص عن طفولته وشبابه، وفي سرد يجعل من كل ذلك يمضي على اتساق وتناغم مع حياة بشير، بحيث يكون ماضي الأب على اتصال مباشر مع حاضر الابن الذي يعمل في شركة علاقات عامة ويرسم في مجلة رسوماً كاريكاتورية، وصولاً إلى اسمه، الذي سماه به والده، وللمفارقة باسم بشير الجميل، بناء على قصة والده مع هذا الزعيم اللبناني الذي اغتيل، كون الأخير أطلق سراح مأمون لدى أسره في حرب «الكتائب» ضد الفلسطينيين، الأمر الذي يعود ويتكرر معكوساً هذه المرة حيث يقدم مأمون مريش على اطلاق سراح بشير الجميل لدى أسره من قبل «فتح».
هكذا قصص ستمر في سرد مدهش ومصنوع بحنكة، ستأتي على لسان الدكتور الذي يعالج بشير، وهو في الوقت نفسه من أصدقاء والده، إلى أن يصل الفيلم إلى الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني بين «حماس» و«فتح»، كما يقول لنا الفيلم وبعد كل ما شاهدناه وسمعناه عن مأمون مريش، هذا ما وصلت إليه القضية الفلسطينية! هذا ما دفع من أجله مأمون مريش دمه ثمناً له، الوصول إلى العبث وقمة العدمية بعد أن كان حلماً ثورياً كبيراً يجسده جيل مأمون مريش و«أبوجهاد»، يخرين يرد ذكرهم في هذا الفيلم المميز.
«بيروت ع الموس»
مع فيلم زينة صفير «بيروت ع الموس» أو «كل شيء عن أبي» الترجمة لعنوان الفيلم بالانجليزية، الذي أجده صالحاً أكثر، كوننا سنكون طيلة الفيلم أمام والد المخرجة صفير، الحلاق ايلي الذي يعيش أيامه في بيته الذي لا يفارقه وقد وصل خريف العمر، كما أننا طيلة الفيلم لن نفارق ذلك البيت إلا حين يمضي ايلي إلى محل الحلاقة الذي أصبح لا يعمل فيه بل يديره من خلال الهاتف.
الرهان في الفيلم على ذاكرة الأب، ومسعى من صفير لتسجل ذلك، جزءاً من الذاكرة اللبنانية، ونحن نسمع حلاق بيروت ايلي وهو يعيد سرد أحداث 1958 ومعها شخصيات تاريخية حلق لها وكان شاهداً عليها في أثناء تلك المرحلة مثل كميل شمعون وصائب سلام. يبدأ من عاليا والعائلات الإقطاعية اللبنانية، مروراً بانتسابه إلى «الكتائب»، إذ تصر المخرجة على معرفة دوافعه في هكذا خيار، لكن كل ذلك السرد يأتي بمنتهى العفوية، وتحت وطأة عمر ايلي والذاكرة التي تنجده في أحيان وتخونه في أحيان أخرى، وعلى شيء له أن يجعل من الأب شخصية وجدت مخرجة الفيلم ضرورة شخصية وتاريخية في تسجيل ما كان شاهداً عليه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news