رحل عن 20 فيلماً وثائقياً
عمر أميرالاي..التوثيق الريادي للشقاء السوري
للعين القابعة خلف عدسة الكاميرا أن تقرر ما الذي ستلتقطه، ومن أين ستلتقط ما يشكل حياة كاملة، أو حيوات تشكلت بعيداً عما يراد إيهامنا بأنه محقق، بينما الفقر والظلم مغيبان عن الصورة الرسمية، وهناك مجاميع بشرية كاملة تعيش معلقة بين السماء والأرض، خارج الزمن، وهناك من يدعي أنه أدخلها الزمن، إنها الكاميرا، ما يمتلك القدرة على التعرية وهي توثق البؤس، تجد في الهوامش مساحة كاملة لمجابهة المتن، وإيصال حيوات بشر ملفوظين.
مع رحيل المخرج السوري عمر أميرالاي السبت الماضي، (67 عاماً)، سيكون ما تقدم هو المعبر إلى أفلام هذا السينمائي الذي كان منغمساً تماماً بكل ما له أن يكون مفصلياً في حياة شعبه، وفي رهان كامل على السينما الوثائقية التي وجد فيها أداته لتوثيق بلده عبر المضي إلى الأطراف وتقديمها وثيقةً تعري المركز وأوهامه، وفي فعل ريادي يحتمل دائماً أن يكون الشكل والمضمون على تناغم مدهش، حيث قدمت أفلامه مقترحات بصرية وجمالية طليعية على السينما العربية، وتحديداً الوثائقية منها، حين لم يكن هذا النمط السينمائي بحضوره اليوم، وعليه كان رهان أميرالاي وهو يجد في الواقع كل الدراما التي لا لزوم لأن يبتكرها، بل ينقلها على طريقته الخاصة.
تعقب البؤس
عمر أميرالاي وبمسيرته السينمائية التي تمتد لأكثر من 20 فيلماً، قدم سجلاً سينمائياً هائلاً عن الشقاء السوري، مقارباً إياه برؤيته الفكرية والسياسية النقدية، مجسداً تماماً توصيف دزيغا فيرتوف للفيلم الوثائقي بوصفه «هجوم آلات التصوير على الواقع، بما يضمن صورة حقيقية ويهيئ في خلفيته التناقضات الطبقية والاجتماعية موضوع كل العمل الخلاق»، ومضيفاً على ذلك اشتباكه بهذا الواقع الذي يتجاوز وصفه بالمهم، نظراً للعمق والحيوية النضالية التي يتمتع بها أميرالاي المثقف، وعليه فإن أفلامه وفي مستوى آخر كانت اندماجاً للشخصي بالواقعي، كما فعل في فيلم عن رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري «الرجل ذو النعل الذهبي»، إذ حول الفيلم إلى اختبار سينمائي لعلاقة المثقف بالسلطة وبالمال، أو كما هي الحال مع «طبق سردين»، حيث يقول لنا أميرالاي إنه، كلما ذكرت إسرائيل، كان يشم رائحة سمك السردين.
مقاربة سينما أميرالاي الوثائقية سيكون في اتجاهين، الأول يأتي من بدايته مع فيلم «محاولة عن سد الفرات» في عام ،1970 إذ التوثيق سيكون لعملية التحديث التي بدأت في سورية بعد الحركة التصحيحية، مروراً بفيلمه الثاني «الحياة اليومية في قرية سورية» في عام ،1972 حيث الأمر مختلف تماماً هنا، إنه يتعقب البؤس، يمضي مع البشر في قرية «مويلح الجنوبي»، حيث لا شيء سوى قسوة الطبيعة وانعدام أدنى شروط الحياة، وعدا جماليات الصورة التي يقدمها أميرالاي في الفيلم بإحاطته بشتى جوانب الحياة في تلك القرية، فإنه يقدم سرداً يعتمد روايتين، فما نسمعه على لسان المسؤولين تقابله صورة الواقع دون رتوش، فحين يقول طبيب الناحية، إن الوفيات بين الأطفال قليلة، يطالعنا الواقع الذي تتعقبه الكاميرا بغير ذلك، كما أن معلم المدرسة الذي يسأل الطلاب الاهتمام بغذائهم، فإننا نسمع ذلك بعد أن نكون قد عرفنا أن غذاء كل من في القرية ليس إلا الخبز والشاي، وأن الأغلبية تعاني فقر الدم.
عمر أميرالاي وفي أواخر أفلامه، سيعود إلى تلك القرية وسيقدم فيلماً آخر في عام ،2003 عنوانه «طوفان في بلاد البعث»، حيث لن يتردد ومع بداية الفيلم، في أن يعلن تنصله مما يصفه «انحيازه إلى التحديث في سورية»، والذي كان نتيجته إخراجه فيلمه الأول «محاولة عن سد الفرات»، واصفاً ذاك الانحياز بالخاطئ، وليكون هذا الفيلم بمثابة وثيقة ترصد ما صار إليه سكان من يعيشون على ضفاف «بحيرة الأسد»، والفيلم من بدايته إلى نهايته سيضيء للمراحل البعثية التي يعيشها الطلاب، من طلائع البعث إلى اتحاد شبيبة الثورة، وفي ثنايا ذلك، فإن أميرالاي يرصد فقط منطق البعثيين القائمين على تلك المنطقة، بمن فيهم الشيخ دياب الماشي، عضو البرلمان السوري من عام ،1954 الذي توفي عام ،2009 وصولاً إلى حفيده مدير المدرسة. الأفلام الثلاثة التي أوردناها، لها أن تكون نماذج عن مقاربة أميرالاي للمهمشين والمنسيين، ويمكن إضافة فيلم «دجاج» إليها، باعتباره هو الآخر مقاربة لقرية «صدد» السورية، وخيبات الفلاحين المتوالية من الجفاف وصناعة العباءات، وصولاً إلى تربية الدواجن، بل إن أميرالاي لن يكون ببعيد عن مجاز الدجاج والتدجين. بالانتقال إلى نماذج من أفلام يمتزج فيها الشخصي بالتاريخي، فإننا نعود إلى قصة أميرالاي مع إسرائيل ورائحة السردين، كما سيقول لنا في فيلمه «طبق السردين»، إذ سيبدأ من مدينة القنيطرة السورية، حيث العلامة الفارقة للوحشية الإسرائيلية، سيكتشف أن المبنى الوحيد الذي بقي بعد التدمير الإسرائيلي لهذه المدينة هو «سينما الأندلس»، وسيجد في ذلك مدعاة لتذكر المرة الأولى التي سمع فيها كلمة إسرائيل، أي في بيروت عند خالته المهجرة من يافا وزوجها الذي كان يصطاد يومياً السردين.
مخاوف شخصية
هذا السرد الذاتي سيتحول إلى مخاوف شخصية تتجسد بقوة في فيلم «الرجل ذو النعل الذهبي»، عن رفيق الحريري، فهو سيبدأ من مخاوفه من علاقة المثقف بصاحب المال والسلطة، سيتكلم عن «هلوسة مثقف مذعور»، سيستعين بإلياس خوري وسمير القصير وفواز طرابلسي، وسيجد نفسه في موقع من يمثلهم أيضاً، ويقول إننا نلعب لعبة «تسجيل النقاط على الآخر»، سيروي أميرالاي في الفيلم أنه، وطيلة تصويره الفيلم، كان ينتابه شعوران متناقضان «الود وريبة»، وسيقول بينما يمضي الحريري في الإجابة عن أسئلة كثيرة، «استوقفتني نعل رفيق الحريري الجديدة، والمفارقة بين رغبته بمعرفة الناس، ونعاله التي لا تعرف غبار الشوارع». أميرالاي قارب لبنان قبل «الرجل ذو النعل الذهبي»، من خلال حفّار قبور في الحرب الأهلية، ومضى معه ليقارب الحرب تحت عنوان «مصائب قوم»، وجد فيه معبراً كاملاً إلى حجم القتل والدمار الذي حملته تلك الحرب، ملتقطاً في ذاك الذي يقول له «أحب معاشرة الأموات أكثر من الأحياء»، تجوالاً توثيقياً لشوارع بيروت وقبورها. عمر أميرالاي وفي موته الشخصي، لم يمنح فرصة لأي أحد ليشاهد كيس «سيروم» معلق، بينما الكاميرا مثبتة على نزول السائل نقطة نقطة، أو أن يصور مخرج آخر احتضاره، كما فعل مع صديقه وشريكه الكاتب الراحل سعدالله ونوس في فيلمه عنه، لم يسأله أحد عن حياته التي انتزعت منه فجأة، فهو لم يكن بحاجة إلى ذلك، إنها أفلامه التي تجاوزت الـ20 فيلماً كانت بما يتخطى، ذلك وتضع أمامنا حياته وحياتنا متضافرتين، حياة وثّقت وتوثقت بالتزام المثقف المهموم بهموم جمعية وشخصية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news