«أحمر شفاه» مشكلات عربية بدمـــــــــــــــــــــــــــــــــــغة إسرائيلية. من المصدر

ثلـج برلـين أفضل من رياحها

في يوم، أول من أمس، من مهرجان برلين السينمائي، مضى مخرج إسرائيلي خلف حياة امرأتين فلسطينيتين، بينما مخرج ألماني يعود إلى «الهولوكوست»، عبر لوحة لمايكل أنجلو. الطقس بارد لدرجة أنه لا يفكر إلا باختراق الأجساد والوصول بيسر إلى العظام، الألمان يقولون «الثلج أفضل» وما من ثلج حتى يخفف من وطأة الرياح العاتية التي على المتابع لمهرجان برلين أن يختبرها وهو يعبر الساحة المترامية في «بوتزام بلاتز»، الأمر الذي يستدعي اللجوء إلى محطات المترو للوصول إلى العروض من تحت الأرض، كما أن لطقوس السجادة الحمراء أن تمضي على العجل، ولتكون المساحة المتاحة لالتقاط الصور في داخل فندق «حياة»، إذ لا يمكن لنجم أو نجمة احتمال درجة الحرارة وهو يتلقى آلاف فلاشات التصوير، المصورون أيضاً لن يحتملوا ذلك، وحده الجمهور من يرضى بانتظار نجمه أو نجمته في هذا البرد القارس. المفارقة العجيبة التي ستمضي برفقتها لدى مشاهدة الفيلم الإسرائيلي «أحمر شفاه»، تتمثل بأن عليك في برلين أن تشاهد مشكلات عربية خالصة، لكن بدمغة إسرائيلية، كما لو أن هذه الدمغة جواز العبور لتكون تلك الإشكاليات طافية على سطح شاشة برلين، وعلى شيء لن يستغرق طويلاً لتكون أيضاً برفقة سؤال آخر: ما الذي يدفع مخرجاً إسرائيلياً لتقديم فيلم ناطق بالانجليزية والعربية، بل إن العبرية لن تظهر في الفيلم لأكثر ما مجموعه دقيقتان أو ثلاث؟ ومع البحث عن خلفية هذا المخرج الذي يخوض تجربته السينمائية الأولى، ويحمل تجربة تلفزيوينة طويلة، سنكون أمام حقيقة أن المخرج من مواليد تورنتو في كندا، وهو وعائلته التي لم تهاجر إلى فلسطين إلا عندما كان المخرج جوناثان شاغال قد بلغ 11 من عمره، ولعل هكذا سيرة ستشكل سيرة أغلب سكان اسرائيل مع تفاوت تواريخ الهجرة والاستيطان في فلسطين.

من الفيلم الألماني « عدوي الحميم » من المصدر

«سيكولوجي»

هذه الخلفية ستضعنا أيضاً أمام الخيار الذي وقع عليه جوناثان شاغال في فيلمه الذي يمكن اعتباره الأول سينمائياً، فهو يضعنا ومن البداية أمام لارا (كلارا خوري) التي تروي لنا كيف صارت عليه حياتها هي الفلسطينية التي تعيش في لندن ومتزوجة من انجليزي ولديها ولد منه، وهي تروي ذلك أثناء الاحتفال بعيد ميلادها، ومن ثم تدخل على حياتها أنعام (ناتالي عطية)، ولتبدو حياتهما حياة مشتركة في كل شيء، وهنا سيمضي الفيلم على مستويين سرديين، الأول في الزمن الحاضر، والثاني استعادي لحياتهما المشتركة، وصولاً إلى النهاية التي ستكشف عن شيء آخر غير الذي نراه، كونهما وهما تستعيدان حياتهما الماضية ستكونان عرضة لحذف أو تحريف أحداث بعينها، أو سردها بإجراء تعديلات عليها، وفقاً لآليات الذاكرة الانتقائية التي تجد تعديلاً للذكريات المؤلمة، بحيث تأتي بها بما يتناسب مع الخيال أو شيء من هذا. الفيلم «سيكولوجي»، وهذا دقيق جداً، كونه يأتي من أعماق الشخصيتين الرئيستين، حيث أولاً علاقتهما الملتبسة والمملوءة بشتى أنواع التناقضات، لارا هادئة لكنها تختزن الكثير في داخلها، وهي التي تربح دائماً، بينما أنعام فشبقة ومستهترة وهي ستدفع أثماناً باهظة، وكلما عاد الفيلم بالزمن، فإننا سنعثر على ما يميز كل شخصية على حدة، لكن يبقى ما حصل مع هاتين المرأتين في فلسطين هو المنعطف الذي غير حياتهما وتحديداً أنعام التي نراها وهي مراهقة امرأة عابثة تنتقل من شاب إلى آخر، وما إلى هنالك من طيش جارف، وحين تقرر هي ولارا التسلل عبر الحواجز والوصول إلى إسرائيل لمشاهد فيلم في السينما، فإن ما سيقع على أنعام وعلى مرأى من لارا، سيكون نقطة الفصل في حياتها، إذ إنها وحين يتمكن جنديين من كشفهما ومعرفة أنهما فلسطينيتين، فإن جندياً منهما سيقدم على اغتصاب أنعام، وهنا سنكون أمام سردين مختلفين في الفيلم، الأول يحدث املاءات تعديل ذاكرة أنعام التي ترينا بداية ووفق ذاكرتها، أن الأمر تم برغبتها كما لو أنه فعل حب، لكن سرعان ما يتضح ما يتناقض وذلك في السرد الثاني، كما سيكون عليه الجزء الأخير من الفيلم، وعليه يمسي الحب فعل اغتصاب مهين، وأحمر الشفاه الذي تسرقه أنعام من أمها سرعان ما يقع منها ويصير إلى جانب حذاء الجندي، بل إنها تحبل من ذلك الجندي الذي يجسد العدو بأعتى صوره، وتجهض نفسها بقسوة كما لو أنها تنتقم من نفسها، التي تقول بداية لذلك الجندي «لماذا تخافون منا؟ أنتم لا تعرفون إلا الخوف»، وتضيف «أنا بالنسبة إليك (بووم)» وتقوم بذلك لتخيفه بوصفها قنبلة متفجرة.

نازية ويهود

ضمن مسابقة برلين السينمائي، وعلى هدي النازية واليهود، الموضوع الذي علينا أن نقع عليه مع كل دورة برلينية جديدة، عرض أول من أمس، أيضاً فيلم ألماني بعنوان «عدوي الحميم» للمخرج ولفغانغ مرنزبرغر الذي يحكي عن صاحب أكبر غاليري في فيينا، وهو يهودي بحيث نكون أمام مصيره وعائلته مع صعود النازية، لكن من خلال تقديم ذلك في قالب درامي يمزج الكوميدي بالتاريخي، وفي اعتماد على لوحة يملكها صاحب الغاليري بعنوان «موسى» لمايكل أنجلو، التي يريها لصديق له هو ابن الخادمة التي تولت خدمة عائلته لأكثر من 25 سنة، لكن هذا الصديق سرعان ما يسمى «العدو الحمي»، عندما يصبح في قوات العاصفة النازية، ويفشي سر اللوحة التي يملكها صديقه، وبالتالي تمسي تلك اللوحة والوصول إلى النسخة الأصلية المسار الذي تتحرك فيه أحداث الفيلم، ونجاة صاحب الغاليري وأمه من معسكرات الاعتقال النازية لهدف الحصول على النسخة الأصلية التي يكون الفوهرر هتلر في طريقه لمشاهدتها. الفيلم مبني وفق سيناريو محكم، وسرد رشيق يضعنا أمام فيلم أقل تجهماً بكثير من فيلم «اليهودي سوس» الذي شاهدناه العام الماضي في برلين، وقد كان يروي مصير صناع فيلم بروباغندا نازية، استعمل كمحرض للجنود النازيين لتعذيب اليهود وما إلى هنالك ومن شحن نفسي كان يقدمه الفيلم، بينما يأتي «عدوي الحميم» من باب الفهلوة اليهودية، والقدرة على المحافظة على لوحة مايكل أنجلو بوسائل مضحكة في الفيلم، ولها أن تكون قدرة على المناورة واللعب على هوامش ما هو متاح بينما هم تحت رحمة النازية التي تتعقب مصائرهم. الفيلم لا يرغب إلا بتقديم حكاية مبنية بعناية فائقة، ومفارقات، كأن يمسي صاحب الغاليري نازياً بدل صديقه الذي يعامل كيهودي، ووفق منطق فكاهي يمتد له أن يأخذ سوء الفهم الذي يقع فيه الضباط النازيون إلى مساحات من الضحك والاستثمار الدرامي.

الأكثر مشاركة