«برلين السـينمائي» يختتم فعالياته اليوم
«ما لم نكن نحن، فمن؟ ما لم يكن الآن، فمتى؟» تصلح العبارة التي أخذ منها المخرج الألماني أندريه فيل عنواناً لفيلمه أن تكون جملة ناظمة لما يشهده العالم العربي هذه الأيام، وعلى شيء يجعل منها أيضاً جملة ختامية لعروض الدورة 61 من مهرجان برلين السينمائي التي تنهي عروضها اليوم وقد حملت أفلام كثيرة تجاوزت الـ400 فيلم، ولتكون مسابقة هذا العام على شيء من التنويع في الموضوعات والاختيارات والأجيال، وعلى شيء يجعل ما قدم رهاناً على أصوات جديدة في السينما العالمية لم تضع الأسماء الكبيرة جانباً والتي حضرت بجوارها مثلما هو الحال مع فيلم فاندرز وفيرنر هرتزوغ (خارج المسابقة)، وقد قدم كل منهما تجربة وثائقية ثلاثية الأبعاد، بينما حملت المسابقة اسماً كبيرا آخر هو الهنغاري بلا تار وفيلمه «حصان تورينو»، وإلى جانبه أيضاً الفرنسي ميشل أوكلوت الذي قدم «انيماشن» ثلاثي الأبعاد بعنوان «حكايا الليل»، وعدا هذه الأسماء فالأفلام كانت لأسماء جديدة أغلبها يخوض تجربته الإخراجية الروائية الأولى.
لقطات من المهرجان
|
مقترحات سينمائية
يمكن القول أيضاً إن هذه الدورة بدت ومن مقاربة مسبقة أنها دورة تخوض أفلامها في موضوعات لها أن تشكل عناوين سابقة للفيلم، لكن ومع مشاهدة كامل أفلام المسابقة بدت تلك الموضوعات مقدمة بعيداً عن «البروباغندا»، لا بل إنها مشغولة بتقديم مقترحات سينمائية مع إمكانية تتبع المفاصل التوثيقية والسياسية في سياق الأفلام التي عرضنا لها، إذ يمكن الحديث عن طهران اليوم مع فيلم اصغر فرهادي، لكن تبقى جمالية الأسلوب الذي قدم فيه فرهادي طاغياً على ما عداه، كذلك الأمر مع فيلم أندريه فيل الذي يمضي في تعقب جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا واليسار الراديكالي في ستينات القرن الماضي، ونخص بالذكر هذين الفيلمين لأننا سنقدم لهما، ويمكن تعقب تلك الخلاصة في الأفلام التي قدمت لها في الأيام السابقة من «البرليناله»، بما فيها الفيلم الاسرائيلي «أحمر شفاه» الذي يتناول الاحتلال الاسرائيلي وقصة امرأتين فلسطينيتين لم تستطيعا الهرب من الدمغات المؤلمة التي خلفها الاحتلال عليهما، حتى وإن عاشتا في لندن بوصفهما قد صارتا إنجليزيتين.
رهان سينمائي
نعود إلى العبارة التي افتتحنا بها هذا المقال، ولنكون في صدد فيلم الألماني أندريه فيل If Not Us,Wh (ما لم نكن نحن فمن) الذي أخذنا بجمالية خاصة جداً إلى ما له أن يكون فيلماً يقول الكثير، ويتمركز على شخصيتين حقيقيتين لهما أن تكونا رهاناً سينمائياً أولياً لتقديم جرعة جمالية خاصة، وعلى شيء من بناء أدبي للفيلم إن صح الوصف، حيث الرهان على بنية الشخصيات وما يعصف بها من متغيرات، وفي سياق تاريخي محاصر بين ماضٍ مؤلم وحاضر غائم تتشابك فيه المفاهيم وتتصارع، وصولاً إلى ما سيعصف بتلك الشخصيات من تطلع وعشق جنوني حد الهيام والوله، والذي سرعان ما يمسي صراعاً وتدميرا ذاتياً على اتصال بثورة 1968 في ألمانيا الغربية في حينها، حيث النضال أممي وضد الامبريالية الأميركية.
يبدأ الفيلم مع بيرنوارد فيسبر (أوغست ديل) الذي يمتلك حلماً أدبيا كبيراً، سرعان ما يحوله إلى ناشر لأهم الكتب السياسية التحررية، لكن وقبل ذلك يقوم بإعادة نشر كتب والده المعروف بأنه كاتب نازي، لا بل إن أم فيسبر ستقول له: «لولا الفوهرر لما كنت موجودا»، كون هتلر من طلب من والده بأن يكون لديه ابن، كون والد برنوارد لم يكن يرغب بأن يكون لديه أطفال. طبعاً نحن نتحدث هنا في أواخر الخمسينات، وفيسبر مطارد بماضي والده الذي يريد التصالح معه وإن كان رافضاً له، فيسبر سرعان ما يلتقي بغيدرن انسلين (لينا لوزمس) التي تمسي حبيبته وسنده في كل شيء وتنشأ تلك العلاقة المفتوحة على كل أنواع الجنون، «أردت أن أحبك كثيراً بحيث لا تحتاج إلى أية امرأة أخرى»، تقول غيدرن لبيرنوارد، الحقيقة التي تتعرض إلى الكثير من الخيانات من بيرنوارد، ومن ثم من قبل غيدرن التي تنغمس في العمل السياسي. بعيداً عن أحداث الفيلم التي تتطلب سرداً خاصاً لنا أن نعود إليه، فإن قصة انسلين وفيسبر تمضي برفقة ما يشكل مفاصل الحياة السياسية والثقافية في برلين الغربية، وكل ما له أن يكون في النهاية عبوراً نحو ستينات القرن الماضي، حيث التظاهرات الطلابية ضد أميركا أثناء حرب فيتنام، والمنظمات اليسارية المتطرفة التي تؤمن بالعمل العنفي سبيلاً إلى التغيير، وعلى شيء من الفوضوية الاشتراكية، ولتكون ايسلين وغرامها بأندريه بيدر (الكسندر فيهلينغ) معبراً للغوص في تطلعات تلك الحركات، فأيسلين تتخلى عن فيسبر وابنها منه للنضال ضد الامبريالية، النضال الذي يعتمد التفجيرات لغة للتخاطب مع القوى الاستعمارية، وليكون بانتظارها ذاك المصير المأساوي، المصير نفسه الذي يتربص بفيسبر، ألا وهو الانتحار.
الفيلم محتشد بالأفكار والحيوات والعلاقات، مبني بإحكام وتناغم مدهشين، فالمخرج أندريه فيل في أولى تجاربه الروائية وقع على شخصيتين قادرتين على أن تختزلا مرحلة كاملة، شخصيتين فيهما من الغنى والتناقضات والصراعات ما يضعنا أمام جماليات فنية وثورية متأتية من الشخصيات نفسها.
فعلها فرهادي
بالانتقال إلى فيلم المخرج الإيراني أصغر فرهادي هناك ما يدفعني الى القول: لقد فعلها للمرة الثانية فرهادي، نعم فعلها وحقق فيلماً جميلاً آخر حملته الدورة 61 من «البرليناله»، فاتحاً الباب على مصراعيه أمام قدرة السينما على رصد الحياة دون أن تقع بأية مطبات قد تطرأ على الفيلم فتصيبه بعطب هنا وإدعاء هناك، ونقول مرة أخرى في إشارة إلى فيلمه الذي عرف فيه «عن ايلي» وقد حصل من خلاله على جائزة الإخراج منذ عامين في «برلين السينمائي».
|
جديد فرهادي يحمل عنوان Nader And Simin, A) Separation)، «انفصال نادر وسيمين» والذي سيأخذنا مباشرة إلى ما يؤسس له، ألا وهو التقاط طهران اليوم في أبعادها الاجتماعية والتي ستكون أي هذه الأبعاد هي الحامل الأهم لكل ما للسينما أن تتمحور حوله إن كانت مشغولة بالواقع، بمعنى أنه الواقع الحي هو الحامل الأوسع لكل الأبعاد الأخرى الاقتصادية منها والسياسية، إذ يكفي أن تقدم فيلماً محكماً ووفياً لعناصره الدرامية حتى يتضح كل شيء، دون لجوء الى إسقاطات أو اقحامات لا تعرف إلا الفجاجة والإساءة للسياق السردي للفيلم، وفرهادي أهم من يصنع ذلك، إنه مأخوذ بتقديم حكاية يصوغها الممثلون كما هم البشر الذين أخذت منهم هذه الحكاية، لتكون في النهاية تكثيفاً لمصائر وطبقات وصراعات تجري جميعها في إطار ما هي عليه إيران اليوم. الفيلم مبني على حوارات كثيرة ولقطات سريعة، تكاد فيه اللقطة أن تصير مشهدأً والعكس صحيح، كما أن الحوار لا يقع إلا لتطوير الأحداث، حوار درامي بحق وليس محادثة، إذ ما من جملة إلا في مكانها، وما من جملة إلا وتأخذ الأحداث نحو وقائع وتطورات جديدة. يبدأ الفيلم ونادر وسيمين أمام القاضي وقد قررا الانفصال، سيمين تريد السفر، بينما نادر فمن المستحيل أن يقدم على هذه الخطوة وهو يقوم برعاية والده المصاب بالزهايمر، ومن هذا القرار تنقلب حياة نادر رأساً على عقب، ومن قرار منطقي وبسيط يدخل نادر في نفق طويل من المشكلات من جراء استعانته بامرأة تعمل خادمة، ولتكتشف هذه المرأة أن عليها أن تقوم بالعناية بوالد نادر الذي تكتشف في أول يوم أنه قام بالتبول في ثيابه، طبعاً مع الأخذ بالاعتبار بأنها موجودة في البيت مع رجل غير محرم، وعليه فإنها لا تقوم بتنظيفه، إلا بعد أن تأخذ فتوى بجواز ذلك عبر الهاتف. المشكلات ستتوالى وصولاً إلى المحاكم، سيكون كل ما تقدم قابلاً للتناسل حدثياً بما يضعنا أمام مشكلات الطبقة الوسطى الإيرانية التي يمثلها في الفيلم نادر وسيمين وصولاً إلى الفقيرة منها التي تمثلها الخادمة وزوجها، وكله في إطار ما يسود المجتمع الإيراني الآن، ولتكون نقاط الالتقاء بين الطبقتين المتوسطة والفقيرة مساحة لإضاءة المنازعات وما يعيشه المواطن الإيراني من وطأة دينية واقتصادية واجتماعية.