«انفصال نادر وسيمين».. كل الحياة لمن ينادي
يبدو الهوس بالبحث عن أسباب منح فيلم الجائزة الكبرى في مهرجان دون غيره مدعاة الى التندر أحياناً، خصوصاً أننا نتكلم عن هوس، وصولاً إلى الرثاء والضحك حين تمضي مقاربة الفيلم بناء على هذا الهوس المسبق، بما في ذلك أن من يكتب عن الفيلم الحائز على الجائزة لن يكون قد شاهده أصلاً ليحكم عليه من باب نقدي، لا بل إن كلمة «نقد» ستبدو لا معنى لها لدى من يكتبون عن أفلام لم يشاهدوها، بل يجدون في موضوعها مساحة صحافية للانقضاض عليها من باب لا يفضي إلى اي شيء سينمائي أو جمالي.
سبب إيرادنا ما تقدم ضروري، ولدينا فيلم أو مثال حي لم تمضِ ستة أيام على نيله «دب برلين الذهبي» في الدورة الـ61 التي اختتمت السبت الماضي، والفيلم هو «انفصال نادر وسيمين» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، والذي نال أيضاً جائزة التمثيل الرجالية والنسائية في الدورة سابقة الذكر، وعليه توفر لدى متابعي المهرجان معبر معد مسبقاً لاعتبار تلك الجوائز شيئا من مناكفة مهرجان برلين للنظام الإيراني، خصوصا أن عضو لجنة التحكيم المخرج الإيراني جعفر بناهي لم يتمكن من حضور المهرجان وبقي كرسيه شاغراً، لنيله حكماً جائراً بالحبس ست سنوات، وليس كذلك فقط بل منعه من السفر وتصوير أي فيلم لمدة تمتد لـ20 سنة!
|
الأمر مدعاة الى اعتبار هذا الحكم الأغرب ربما في تاريخ الرقابات الفكرية والفنية والأنظمة الاستبدادية وعلى شيء من الابتكار في هذا الخصوص، لكن يبقى فيلم فرهادي بعيدا عن استحقاقه هذه الجائزة لهذه الأسباب، إنه أولاً وأخيراً فيلم متسق تماماً مع ما يقدمه من رصد اجتماعي لإيران اليوم، ولعلّي وطيلة فترة مشاهدة الفيلم كان ما يأسرني تماماً البنية التي تأسس عليها بحيث جاء على هذا القدر من المعاصرة والرصد الواقعي للحياة دون أن يقع في أي من مطبات المباشرة أو ألغام تفصيل فيلم على قياس مقولات مسبقة نقدية أو غير نقدية، بحيث جاء وضمن منطقه الخاص وبنائه الدرامي قادراً على أن يكون أولاً فيلماً محكماً ووثيقة اجتماعية وسياسية واقتصادية لطهران اليوم.
فيلم «انفصال نادر وسيمين» يمضي نحو قصته، يبنيها حدثاً تلو آخر وفي آلية توالدية مدهشة، فهو يبدأ من المحكمة وينتهي فيها وما بينهما. يدع للبداية التي تكون بانفصال سيمين عن نادر وهما أمام القاضي الشرعي دون أن نرى القاضي، بل تكون زاوية الكاميرا هي زاوية القاضي، وهما أمامها وأمامه، هذه البداية لن تتوقف عن التقدم حثيثاً نحو النهاية، فانفصال سيمين عن نادر يعني أن هذا الأخير سيبقى وحيداً في رعاية والده المصاب بالزهايمر، وبالتالي يلجأ إلى خادمة وتكون فاتحة إلى مشكلات جديدة، ومن خلاله وتتابع الأحداث سنتعرف أكثر الى نادر أو الطبقة الوسطى الإيرانية، بينما ستكون الخادمة ومن ثم زوجها اختزالاً للطبقة الفقيرة، ومع اشتباك نادر مع الخادمة، سيتضح صراع اجتماعي معقد، ولكل من الشخصيات أيضاً تعقيداته الاجتماعية والنفسية الخاصة. نادر من أولئك الذين لن يغادروا إيران مهما تردت ظروفه، سيمين ليست كذلك، تفضل الهرب، نادر يصارع الحياة بعناد، الخادمة تأتي وابنتها الصغيرة لتعمل على خدمته، ومن ثم رعاية والده الذي تكتشف أنه مريض، وعليه ومن اليوم الأول تبدأ مشكلاتها، فهي لا يمكن أن تنظف رجلاً قد تبول في ثيابه، وبالتالي تأخذ فتوى على الهاتف بجواز ذلك، ومن ثم يقع الحادث الأكثر درامية في الفيلم المتمثل بأن نادر يعود إلى البيت فيكتشف أن والده وحيد ومقيد إلى السرير، بينما الخادمة خارج البيت، وعليه يطردها وهي تسأله أن يعطيها المال فيتهمها بأنها سارقة ومن ثم يدفعها إلى خارج البيت، الأمر الذي يضعه أمام تهمة التسبب بإجهاض جنينها. هنا سينتقل الفيلم إلى مستويات وطبقات من المشكلات والمآزق مع دخول زوج الخادمة على خط الأحداث، وهو عاطل عن العمل، بينما زوجته من تعمل لكن في بيت فيه رجل مطلق، وبالتالي لدى محرم، وصولاً إلى ملابسات الدعوى التي تقيمها الخادمة وزوجها عليه لكونه تسبب بإجهاض الخادمة.
ما تقدم سيكون مفتوحاً على الكثير من التشعبات والتفاصيل التي يبقى فرهادي ممسكا بخيوطها جميعاً، والوفاء الأكبر فيها للعناصر الدرامية، للحبكة والاستعانة بحوارات مكتوبة بعناية فائقة وموظفة ضمن سياقها التي تضمن، لأنها كذلك وضعنا وجهاً لوجه أمام قطعة حياة مصورة بحرفية عالية، القطعة القادرة على رصد كل ما حولها دون أن تخرج إليه وتخون عناصرها الفنية، حيث الليبراليون في مواجهة المحافظين لكن كتشكيلات اجتماعية طبقية، وليس كتوصيفات مجردة، ومن يمثل ذلك شخصيات من لحم ودم دون أن تتحول إلى نماذج بقسرية ما، بل بالتركيز على حياتها، واختبارات أخلاقياتها وسلوكياتها عند مجابهتها مآزق حياتية. المسارات التي حققها فرهادي في «انفصال نادر وسيمين» كانت موجودة أيضاً في فيلمه السابق «عن إيلي»، دون إهمال حقيقة أن فرهادي في جديده يخطو خطوة كبرى إلى الأمام، فإن كان «عن إيلي» فيلماً متكاملا وجميلاً، فإنه في «انفصال نادر وسيمين» يضاعف من قدراته، يحبكها بمتانة أكبر، رغم أن «عن إيلي» كان أيضاً متبعاً لكل ما وصفنا به فيلم فرهادي الأخير، فهو ايضا يقدم من خلال لغز اختفاء ايلي المرأة الوحيدة غير المتزوجة بين مجموعة من الأصدقاء المتزوجين في إجازة على شاطئ البحر كل ما يضيء حجم الخوف والتناقض الذي تعيشه الشخصية الإيرانية، إنه أيضا يضع الشخصيات في مواجهة مأزق اختفاء ايلي لتكون على حقيقتها المتوارية، لكن ليبقى في ذلك الفيلم متمركزاً حول بؤرة الاختفاء وفي اطار الطبقة الوسطى أو الليبرالية الإيرانية، بينما في «انفصال نادر وسيمين» فإنه يقدم صورة أشمل وفي تنويع في الشخصيات لتكون بانوراما درامية لطهران اليوم. مع فيلم أصغر فرهادي يشغلني شيء مغاير تماماً للبحث عن مسببات نيله جائزة برلين، وهي مستحقة تماماً، ألا وهو لم لا تصنع هكذا أفلام عربية؟ ونحن في أمس الحاجة إليها! البحث عن إجابة أكثر أهمية بمئات الأميال من هوس البحث في ما حول الفيلم وإهمال مضمون الفيلم وبينيته.