قراءة استباقية من الضفة الأخرى
ميدان التحريـــر وذاك«السبت البريء»
يمكن للكاميرا أن تكون على الضفة الأخرى من الوقائع الكبرى، وليس لها أن تكون مصوبة نحوها، حقيقة تتحرك في إطارها أفلام السينما عندما ترفق بصفة روائية، وعند التوثيق يمكن الحديث عن كاميرا في تموضع آخر. مع متغيرات عصرنا وإمكانية الحديث عن التداول البصري للأحداث، وتحول الفيلم إلى منشور سياسي «الدعوة التي كان يبشر بها غودار في ستينات القرن الماضي، وقد أمست حقيقة الآن»، بمعنى أننا الآن وبوجود «يوتيوب» والكاميرات الرقمية التي لا يخلو منها هاتف نقال، أمس الحدث في متناول الجميع، لا بل إن القنوات الإخبارية تعتمدها كمصدر بحيث تمسي شاشة التلفزيون التحاماً بشاشة الهاتف وما إلى هنالك، ويتحول المشاهد إلى ناقل للخبر ومصدر له، ويمكن لكل إنسان يعيش أحداثاً بعينها أن يمتلك أرشيفاً خاصاً به.
«البرليناليه» باع 300 ألف تذكرة مع انتهاء الدورة 61 من مهرجان برلين السينمائي، أعلن «البرليناليه» عن موعد دورته الـ 62 التي ستكون العام المقبل في التاسع من فبراير من عام ،2012 ويعني ذلك تقديمها يوماً بعد أن درجت على أن يكون موعدها في الـ10 منه، كما أعلن المهرجان مجموعة من الاحصاءات المتعلقة بالدورة ،61 حيث بيع في تلك الدورة أكثر من 300 ألف تذكرة فيلم، وتابع الدورة أكثر من 20 ألف مشارك من 116 دولة حول العالم، بينما غطى تلك الدورة أكثر من 3900 صحافي وإعلامي من مختلف أنحاء العالم.دبي ــ أالإمارات اليوم |
أمام تلك الحقائق الفاقعة، ما زالت المساحة بالتأكيد جاهزة لمقاربة الأحداث التاريخية والتوثيق لها راوئياً أو تسجيلياً، وليكون الأمر في الأول محتكماً على متغيرات جمة يجب أن تأخذ في عين الاعتبار، بمعنى أن استعادة الحدث وإعادة تشكيله بصرياً ليس بالأمر المغري بالنسبة للمشاهد طالما أنه أصبح في متناول الجميع، وعلى سبيل المثال الذي له أن يكون استباقياً هنا، إن تقديم فيلم عن الثورة المصرية عبر استعادة تشكيلات الجموع ورصد ما سادها من أخلاقيات وما إلى هنالك أمر نعرفه جميعاً، حتى وإن ترافق ذلك مع تدبيج قصة ميلودرامية أو وصفات درامية تجعل من قصة حب خيطاً ناظماً لما سنقع عليه من مفصل تاريخي، وهنا أيضاً سيكون الأمر بمثابة رطانة سينمائية أكل الزمن وشرب عليها.
نترك المثال الاستباقي، ولتكون صفة الاستباقية على علاقة بأخبار كثيرة يجري تداولها بخصوص مشروعات سينمائية مصرية قادمة من ميدان التحرير، الأمر الذي يستدعي تطلعاً يتخطى كون الأمر مجرد تدبيح أفلام عن هذا المفصل التاريخي إلى البناء على طروحات وأشكال جديدة لها أن تكون حاملاً للمتغير في العالم الذي نعيشه، وليكون اتخاذ ذلك معبراً فنياً هو المطمح الرئيس لما نأمل به سينمائياً، لا أن تكون مقاربة المتغير بأدوات وأشكال أوقفت الزمن ولا تمتلك أي جديد.
أحب هنا استعادة ما قاله لويس بونويل في «السينما: أداة شعرية» «أتوق لسينما تعطيني رؤية متكاملة عن الواقع، تزيد معرفتي بالأشياء والناس وتفتح لي عالم المجهول الرائع الذي لا يمكن قراءته في الصحف اليومية ولا العثور عليه في الشارع»، ولنحور ذلك أيضاً وفق ما تغير منذ ستينات القرن الماضي ليمسي أيضاً الواقع الذي لا يمكن رؤيته على شاشات التلفزة وموقع يوتيوب.
هذا التطلع سيأتي أيضاً مع أمثلة حية لفيلمين شاهدتهما منذ فترة قريبة، وكلاهما ينطلق من حيث الأساس من حدث تاريخي يطال أمة أو شعباً بأكمله وله أن يشكل علامة ومنعطفاً في تاريخه، ولتحضر هنا الكيفية التي قدم فيها ذلك، والعودة مجدداً إلى ما بدأنا به بخصوص أن الكاميرا على الضفة الأخرى من الوقائع الكبرى، الأمر الذي سيتضح القصد منه من خلال الحديث عن فيلم «السبت البريء» للروسي الكسندر مندادز، حيث الفيلم يندرج تحت توصيف سابق له، ألا وهو أن الفيلم يحكي عن كارثة «تشرنوبيل» عام ،1986 لكن وبعد أن يبدأ الفيلم بها أي الكارثة ونحن نتابع فاليري الشخصية الرئيسة في الفيلم يركض وكاميرا مخمولة تلاحقه، فإنها ستمضي إلى تعقب حياة فاليري وليوم واحد هو السبت، بحيث تمسي كارثة «تشرنوبيل» خلفية للأحداث التي نقع عليها، وهنا سنرى كل ما لا يمكن قراءته في الصحف اليومية على رأي بونويل، فمن خلال فاليري الذي يقرر الهرب قبل أن تنتشر الكارثة سنتعرف إلى سكان مدينته وهم جميعاً على معرفة بما حل في «تشرنوبيل» لكن دون أن يغيروا شيئاً في إيقاع حياتهم، ومع تدافع الأحداث فإن ماضي فاليري سينبش ومن ثم حاضره، فهو المسؤول الشاب في الحزب الذي كان عازف درامز في فرقة روك، وستمسي تلك الحقيقة بمثابة معبر إلى فاليري الآخر، ومعه كل من حوله، ونحن نرى ما كانت عليه العلاقات الاجتماعية في ثمانينات الاتحاد السوفييتي، لا بل إن فاليري سرعان ما يستغني عن فكرة الهرب، وليمضي الفيلم من شخصية إلى أخرى من أصدقاء فاليري في تشكيل سينمائي لحيوات اجتمعت في ظل نظام سياسي خاص وادراكها بأنها على أعتاب كارثة، وعليه تصحو كل المفاهيم الانسانية ودون انعطافات مقحمة وفق تلك الحقيقة.
الفيلم الثاني هو للأرجنتينية باولا ماركوفيتش بعنوان «الجائزة» والذي أيضاً إن أردنا أن نضعه تحت عنوان عريض فإنه مصنوع في فعل استعادي لفترة الانقلابات العسكرية في أرجنتين ستينات القرن الماضي، لكن كل ذلك لن يضاء إلا من خلال «الجائزة» التي ستنالها تلميذة في المدرسة، فالفيلم من البداية يقدم لنا أما وابنتها في بيت متآكل على شاطئ بحر مهجور، ولا نعرف عنهما أي شيء الأمر الذي يتضح رويداً، فنحن أمام أم هاربة من الاعتقال، بينما زوجها مجهول المصير، وحين تقرر أن تضع ابنتها التي لم تتجاوز السابعة من عمرها في المدرسة، فإنها ستكون على قلق دائم من أن يكتشف أمرها. يكفي أن تشارك الفتاة في مسابقة خاصة بالجيش الأرجنتيني يقيمها للطلاب ليكتبوا عن الجيش حتى نعرف كل شيء، إنها ستكتب «أنا أكره الجيش، لقد قتل ابن عمي وهو يعزف على البيانو، وهناك طلقات اخترقت البيانو»، لكن هذه الورقة سرعان ما يتم استبدالها بكتابة أخرى عندما تعلم أمها أنها كتبت ذلك، وتنال جائزة أفضل نص كتب عن الجيش الأرجنتيني.
في «السبت البريء» ستكون «تشرنوبيل» معبراً إلى بشر من لحم ودم على أعتاب الكارثة، مع «الجائزة» ستكون الطفولة معبراً إلى ما كانت عليه في ظل الديكتاتورية ونحن نمضي ثلاثة أرباع الفيلم مع تلك الطفلة، وما بينهما يبقى الرهان على ما يحمل ما نعيشه في عالمنا العربي بعيداً عن الترديد الببغائي، ومع الانفتاح تماماً نحو تجريب ما يليق باستثنائيته.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news