سينما «الهيب هوب».. مين إرهابي وأنا عايش ببلادي
هيب هوب الهوامش، العوالم السفلية، الأطراف وما يزنر المدن من فقر وقهر، لكل عصر موسيقاه، إنه عصر «الهيب هوب» أو «الراب»، وصولاً إلى كون هذا النمط الموسيقي آنيا وتوثيقيا بسرعة تتناغم والمتسارع والمتدافع من أحداث، وله أن يكون سياسياً بامتياز، ورغم انطلاقته في سبعينات القرن الماضي، فإن اجتياحاته الحقيقية لجيل بأكمله تحقق في العشر سنوات الأخيرة، وربما عربياً بزمن أقل، إذ ما من بلد عربي الآن إلا وله فرقه الخاصة المعروفة أو غير المعروفة، المغيبة منها أو الحاضرة بقوة.
عليّ أولاً أن أقول إنني لست بمتعمق في هذا النمط الموسيقي، لكنني أعمل على ذلك، وعلاقتي معه سينمائية، متأتية من مجموعة من الأفلام العربية والشرق أوسطية إن شئتم، فأنا لم أدخل عالم هذه الموسيقى من باب «بابليك انمي» على سبيل المثال، بل من فيلم المخرجة الأميركية ذات الأصول الفلسطينية جاكي سلوم Killshot Hip Hop (مقلاع الهيب هوب) إن صحت الترجمة، مع توافر دافع كبير إن تعلق الأمر بكون هذه الموسيقى هي الأداة التعبيرية والجمالية والاحتجاجية لجيل عربي بأكمله.
ما بعد الحداثة
تأخذك هذه الموسيقى والأغاني في مجال تنظيري إلى ما بعد الحداثة في أعلى تجلياتها، وتفكيك البنى الموسيقية التقليدية وتمازج الأغنية بالقصة والبيانات والشعارات والمواقف، رصد الحياة كما هي دون تنقيح، والبناء الشعري للأغاني آت من المفارقة ومن الالتقاطة الذكية والتهكم، بعيداً عن الصور الشعرية والغنائية، التي إن استعملت وأنا أتكلم وأمامي تجارب عربية في هذا الخصوص، فإنها ستأتي في سياق مغاير.
هذه التجارب الموسيقية ستكون ما بعد حداثوية في الملمح الذي يجعلها بعيدة عن الهوس بالبنية الفنية الرصينة، أو تقديم ما يعرف بالفن الرفيع، وتلك التوصيفات التي تأخذ الفن بعيداً عن الشارع، كنه أي «الهيب هوب» مشغول كما سنرى بكل القضايا الكبرى: مسألة الهوية والانتماء، التاريخ، الصراع الطبقي، التحرر من الاحتلال، وفي مسعى لأن يعكس الشارع، واستخدام لغته ومفرداته.
كسر الاحتكار في أي نمط إبداعي هو الميزة الرئيسة لهذا العصر، فالجميع يمكنهم أن يكونوا كتاباً وصحافيين، لا بل ووكالات أنباء مع شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات، فالكتابة لم تعد تعني مقالاً أو أي شيء مطبوع في كتاب أو صحيفة، كذلك الأمر بالنسبة للموسيقى مع الهيب هوب، آلة موسيقية واحدة، وسيكون الأمر على أحسن ما يرام، وحتى من دون آلة موسيقية فإن الغناء وارد والتفاعل أيضاً، ومن ثم بث ذلك سيكون في رحاب الـ«يوتيوب» الشاسعة.
في فيلم «مقلاع الهيب هوب» سنتعرف إلى الفرق الموسيقية الفلسطينية، وسيكون الأمر مثيرا للإعجاب الكبير بهؤلاء الشبان الذين يوصلون قضايا شعبهم ويتواصلون مع شعبهم عبر الموسيقى، فمن اللد سنكون مع فريق MDR سنتعرف إلى منابعهم الثقافية، سيخبرنا أحد أفرادها بأن الألبوم الذي يحمل عنوان «قاسم السود المشاعر» لفريق أميركي هي العبارة نفسها التي يريد أن يقولها باستبدال السود بالفلسطينيين، إنهم شباب مثقفون منفتحون، يقرأون محمود درويش ويعشقون شاك دي.
سينتقل الفيلم من اللد إلى عكا حيث فرقة MD ومن عكا إلى غزة وفرقة PR، وبين فلسطينيي 48 وفلسطينيي 67 سيكون الهيب صلة الوصل، سيسرد كل تاريخ الاحتلال ومرارته مع هؤلاء الشبان، وستكون موسيقاهم وكلماتهم جنباً إلى جنب مع حياتهم «كيف إرهابي، مين إرهابي، وأنا عايش ببلادي.. يا قاتلي يا قاتل أجدادي.. أنا ماني ضد السلام، السلام ضدي..».
جمالية الفيلم من جماليات الشباب وموسيقاهم، أحلامهم خيباتهم ومرارات عيشهم اليومي وقائمة طويلة يتنوع سردها برفقة الموسيقى بهذا الخصوص، في اللد إما أن تكون عاطلاً عن العمل أو أن تغرق في تجارة المخدرات، وفي الرحلة التي يأخذنا بها محمود في أزقة عكا، سيضعنا في صلب حياته اليومية، ومن ثم ذهابه إلى تل أبيب، حيث يفتش عشرات المرات، يشتم ويلعن ويدخن، والشرطة توقفه لمجرد أنه يتكلم العربية.
في غزة سنكون شهوداً على أول حفلة لفريق PR، سنتعرف خلى المشاركة النسائية في الفرق، الصعاب التي تواجههم، ردودهم في أغان تنادي بحرية المرأة وترى في ذلك عودة إلى عصور وأد المرأة.
مواجهة الاحتلال
مع فيلم جاكي سلوم سنكون أمام «هيب هوب» في مواجهة الاحتلال ومعه المفاهيم الاجتماعية المتحجرة، ولعل من مزايا هذا الفن أنه على اصطدام دائم مع السلطة بكل أشكالها، وهو نقدي وتهكمي بامتياز، ولنا أن نعثر عليه في فيلم آخر إيراني بعنوان «لا أحد يعرف عن القطط الفارسية»، كتبت عنه في ما مضى، لكن أكتب عنه الآن لإضاءة جانب آخر من اصطدام الهيب هوب مع سلطة من نوع آخر ألا وهي السلطة السياسية المتحالفة مع الدين، حيث الموسيقى محرمة، وتحديداً هكذا نوع موسيقي شيطاني على اتصال بالقوى الامبريالية، كما يحلو للنظام الإيراني أن يجد في فرق الهيب هوب والروك وغيرها من موسيقى أميركية.
لن أعود إلى سرد ما حمله هذا الفيلم الذي صوره بهمان غوبادي سراً، وهو يقدم توثيقاً لموسيقى طهران وعوالمها السفلية، لكن في خط درامي بسيط يتمثل بمصائر كل من نيغار وأشغان، بينما يطغى التوثيقي على ما عدا هذا الخط، ونحن ننتقل من فرقة إلى أخرى وبرفقة مشاهد من مدينة طهران، ونتعرف إلى ما يواجهه هؤلاء من قمع وصعاب، كأن يقوموا بالتدرب على موسيقاهم في غرفة مصنوعة من الفلين على سطح بناية، لئلا يسمع الجيران الموسيقى ويشتكوا إلى الشرطة الأخلاقية، وصولا إلى التدريبات في مزرعة أبقار، بعيداً عن المدينة وإقامة حفلة يكون فيها والموسيقيون والمتفرجون محاصرين بروائح الأبقار.
فيلم ثالث سيضعنا أمام ملمح آخر من ما يحاصر هذه الموسيقى، وهنا سيكون الفيلم مصرياً وهو «مايكروفون» للمخرج أحمد عبدالله، حيث سنتعرف إلى هوامش من نوع مختلف في مدينة الاسكندرية، ولعل تتبع الفرق والشخصيات في الفيلم سيضعنا أن موسيقى «الهيب هوب» وهي تتحرك بالفيلم في نطاق الطبقة الوسطى، الشباب الذي يحمل أفكار ما بعد حداثوية، لكن كل ما حوله ضده، وليكون أيضاً ماضيا في خط درامي بتمركز عند الشخصية التي قدمها خالد أبوالنجا، ولنمضي من فرقة إلى أخرى، ولعل الصدام هنا سيكون ليس بالقسوة التي نقع عليها في الفيلمين السابقين، لكن يمكن من خلال الفيلم تلمس مطمح الشباب المصري للجديد والمغاير، الذي له على مر التاريخ أن يكون مهمشاً في البداية، الأمر الذي ليس بذلك ونحن نسمع تلك الفرق ولها الآلاف من العشاق وصدامها في الفيلم سيكون مع المتدينين والمؤسسات الرسمية، لكن متى كانت المؤسسة الرسمية تتبنى الجديد؟
وفي ملمح نعيشه في أيامنا هذه يحضر «الهيب هوب» بوصفه الأداة الأسرع والأدق لما يشهده العالم العربي، ولعله صار على ارتباط وثيق مع الثورات، ونحن نقول ذلك بينما لكل بلد عربي شهد أو يشهد ثورة أغانيه الخاصة في هذا الخصوص، تهكماً وتوثيقاً في آن معا.