من صورة الهوية جاء أطول فيلم في تاريخ السينما

جيرار كوران وصلاحية الخوف السوري

فيلم «البورتريهات» للمخرج جيرار كوران أطول فيلم في تاريخ السينما. الإمارات اليوم

التجارب البصرية، السينمائية منها أو الفوتوغرافية، والفنية عموماً، تكون في أحيان كثيرة وليدة منتج تقني، لها أن تشكل مدارس فنية أو اتجاهات جديدة في الفن، بحيث يمسي الشكل استجابة للطارئ والمتغير في هذا السياق، لا بل إن ما تتيحه التقنيات وقفزاتها التي تكاد تكون يومية ستضعنا أمام اجتهادات تجريبية لها أن تكون بوابة كبرى لمقاربة الواقع وتبادل الأثر.

أبدأ بما تقدم وعيني على الحاصل في عالمنا العربي، وأعبر إلى ذلك من خلال تجربة السينمائي الفرنسي جيرار كوران الذي حل ضيفاً على الدورة الرابعة من مهرجان الخليج السينمائي، وقد حضرت شاشات كثيرة توزعت في «فيستفال سيتي» تعرض بشكل متواصل أفلام كوران، إضافة لكتاب عنه من تأليف الناقد صلاح سرميني، له أن يقودنا إلى «السينماتونية» وعوالم كوران، سائلاً القارئ أن يتحلى ببعض الصبر، كون قراءة تجربة كوران ستكون معبراً إلى واقع لنا أن نكون من ضحاياه أو من أصحاب الإرادة فيه.

التركيز الأكبر على كوران في الكتاب السابق الذكر، سيكون على «أطول وأرخص فيلم في تاريخ السينما»، الذي مازال كوران يصوره إلى الآن، وقد شاركت فيه شخصياً، الأمر الذي لم يتطلب مني سوى الوقوف أمام كاميرا كوران لمدة ثلاث دقائق، كان لي الحرية أن أقوم فيها بما أرغب فيه، وقد كان خياري أن أقوم بتدخين سيجارة، واجداً في ذلك أفضل ما أقوم به في هذه الأيام، أمام الدم الذي يسفح في عالمنا العربي وتحديداً سورية، بوصف التدخين فعلاً عبثياً بامتياز مثله مثل القتل.

«بورتريهات»

عنوان فيلم كوران سابق الذكر «بورتريهات»، وتوصيفه بالأطول والأرخص مفاده أن الفيلم ليس إلا مشروعاً بدأه كوران في فبراير 1978 يقوم فيه بتصوير بورتريهات لشخصيات فنية أو غير فنية، مشهورة أو مجهولة، لنا أن نرى فيها غودار وفيم فاندرز، أو ناقداً صينياً وقع عليه كوران مصادفة في جزر القمر.

أقتبس من كتاب سرميني «جيرار كوران، هل هذه سينما حقاً» للتدليل على ما تقود إليه التقنية من أساليب، فكل بورتريه مدته ثلاث دقائق الأمر المتأتي من «الزمن الفعلي لعلبة شريط فيلم من مقاس (8) ملم سوبر»، وقد بقي هذا الزمن ثابتاً ونحن نتكلم الآن عن ما يتجاوز 4000 بورتريه، الرقم القابل للتزايد في كل يوم، كما أن فكرة هذا الفيلم جاءت من أجهزة التصوير الفوري التي تنتشر في محطات المترو والقطار والمراكز التجارية، إذ كانت الشخصية في البداية تظهر ثابتة في مواجهة الكاميرا الأمر الذي تغير بعد ذلك، إذ للشخصية أن تفعل ما تشاء أمام الكاميرا، من دون أن يفوتنا أن كوران انتقل منذ زمن إلى الكاميرا الرقمية.

قدسية الكاميرا

استجابة الفن للتقنية ستكون معبراً إلى ما يتخطى ما يقدمه كوران والمضي مع شاغلي الرئيس في هذه الأيام، وهي العتبة التي تم تخطيها في السنوات الأخيرة، المتعلقة بقدسية الكاميرا، واحتكارات أدوات التعبير التي تم تدميرها، ولنا هنا أن نتحدث عن الكاميرات الرقمية المتدافعة في تطورها، وصولاً إلى الهاتف النقال و«الآي فون»، حيث أصبح في متناولنا جميعاً أن نصنع أفلاماً بالمعنى التوصيفي للكلمة من دون الفني منه، ولعل الميزة الرئيسة التي يتمتع بها مهرجان الخليج تتمثل في أنه في كل دورة يعزز من هذه الحقيقة، التي تضعنا أمام جيل تشكل ويتشكل بحيث لا تفارق الكاميرا يده، فهي كما القلم في جيل سابق، والتدوين لا يحدث إلا أن طريق الصورة، من دون الخوض في الركاكة والجودة.

همّ تسجيلي

هنا ننتقل بالكلام إلى مستوى آخر، والهم التسجيلي المصادق عليه أولاً لدى جيل بأكمله، بحيث تمسي المفكرة اليومية مفكرة بصرية، وحين يتم نقلها إلى مستوى آخر غير ذاتي تمسي توثيقاً موضوعياً، بالمعنى الحدثي، خصوصاً في الأوقات الراهنة، فأنت تصور ما تراه فقط، فيمسي هذا الفعل اشكالياً، فما تشهده اليوم مدينة درعا السورية تتولى نقله كاميرات الهاتف المتحرك بامتياز، وأدوات البث التلفزيوني لا حضور لها، بل هي تنقل ما يحمله الهاتف، وما يتم نشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع «اليو تيوب»، وهنا يحضر مجدداً حلم غودار الثوري في ستينات القرن الماضي حين كان يتوق لأن يتحول الفيلم إلى منشور سياسي، لكن مع ما يمكن أن نضيفه في هذا الخصوص، بأن ما تحمله تلك «الكليبات» التي يجري تداولها، تحولت إلى منشور تأتي السياسة فيه من زاوية الرؤية فقط، وعليه أصبح فعل التصوير سياسياً لا لشيء إلا لأنه يصور هذا الحدث دون غيره، يلتقط تلك الزاوية وليس غيرها، وهنا على النظام السياسي أن يعمل على ايجاد آليات مجابهة، لكنها، كما هو الحاصل حالياً في سورية، تبدو متآكلة، عاجزة عن مجاراة هذا الفعل المؤسس على الديجيتال و«اليوتيوب» والـ«فيس بوك» أو غيرها من الشبكات الاجتماعية، من دون أن يكون أيضاً من آليات تعترف أولاً بأنه عصر الصورة.

تجييش

أداة النظام السوري في مجابهة ذلك ستكون عبر المحطات الرسمية، وما تسمى خاصة، وهي أشد تجييشاً من العامة، وتكذيب الكثير مما تم تداوله من «كليبات» يكون كلامياً على الدوام، الصورة تقول كل ما تقوله عبر رصد وتسجيل ما وقعت عليه العين، ثم يأتي محلل في القناة السورية ويقول هذا كاذب! هذا تم تركيبه! والمدهش في الأمر أن التلفزيون نفسه يكتفي بتلك الآلية ولا يخرج بصورة موازية أو مجابهة لما تم تقديمه، وإن فعل فإن من يفند ذلك مازال عالقاً بـ«الفوتو شوب» على الرغم من أن الكلام عن صورة متحركة، وهكذا يتحول التلفزيون السوري إلى آلية تجييش كلامي، ومعها حصر الصورة في ما تودّ عرضه، طبعاً مع هيمنة مفهوم يتمثل بتكذيب كل ما هو حاصل، وتخبط عجيب يحصر الشهداء، كل الشهداء، في الجنود والضباط فقط، والأداة التي يفترض أنها تتكئ على الصورة ليست إلا خطابية، والرهان كل الرهان على إثارة مشاعر مناهضة للذي تمت اثارته من خلال فضح الوحشية التي تنقلها كليبات المحتجين والمتظاهرين.

هنا نعود إلى كوران ونستعين لتوضيح تطور الأساليب التي تستجيب للآليات، والمتغيرات السردية وفق المعطيات التقنية الجديدة، فمع الانتقال إلى الإعلان الرسمي الديناصوري تمسي غرفة التصوير، التي استقى منها كوران فيلمه اللامتناهي من «البورتريهات»، موجودة في ذاك الإعلام، والصورة التي يقدمها هي تماماً صورة الهوية حاسرة الرأس، من دون أدنى حركة، ولها أن تكون صورة المذيع أو المذيعة ولا شيء يفعله/تفعله سوى الكلام، الرد الكلامي على الصورة، وليتضح هنا ضرب عرض الحائط بكل ما شهده العالم من ثورات اتصال بصرية، وليبقى التساؤل الأكبر هل ممكن مجابهة النقل البصري والذاتي للحدث بـ«الغوبليزية»؟ هل الخطابة تقف أمام بلاغات الصورة وسردها القادر على أن يكون حيادياً وإن كان غير ذلك؟ الإجابة عن ذلك تنقلنا إلى مستوى آخر، يدخل في مخاطبات الأدرينالين، في الجهوزية النفسية لدى المتلقي للتخلص من الخوف، فالخوف، والإصرار عليه، يجعلان من المتلقي يكذّب كل ما يراه، الخوف البدائي يرى ملاذه أيضاً في الخطابة والبدائية الإعلامية، وهنا يبدو كلما أوغلت في التخبط الإعلامي كان الأمر ناجحاً، طالما كان الرهان على الخوف الذي يوقع على بياض، لكن يبقى للخوف على مر العصور مدة صلاحية.

تويتر