الفيلم الفائز بجائزة لجنة التحكيم في «البندقية»
«قتل أساسي».. الهــروب مـن النافذة إلى غرفة دون نوافذ
يمكن الحديث دائماً عن الهروب، ويمكن للهروب أن يكون بحد ذاته مأزقاً سرعان ما يتحول إلى سجن، ولعل هكذا بداية تمضي لتعمم ذلك على شتى أنواع الهروب، الواقعي منها أو النفسي وصولاً إلى الافتراضي، كأن تهرب من النافذة إلى غرفة بلا نوافذ، أو أن يكون العبور من ضفة نهر إلى أخرى إيذاناً بوصولك الهاوية، وهكذا توابع لها أن تجعل من الشيء الذي نهرب منه أكثر رأفة مما سنواجهه، والسجن الذي يهرب منه السجين سيضعه في سجن كبير.
الهروب موضوع أثير في السينما، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن حين يدخل أحدهم السجن في فيلم هو الكيفية التي سيهرب فيها، ما من سجن في فيلم إلا ويحمل غالباً محاولات للهروب، وليكون النجاح في تحقيق ذلك في الأفلام التجاريـة رهان الفيلم كل الفيلم، الصعوبات التي يذللها ومدى الصعوبات التي تقف في وجهه ويتمكن من تخطيها، هنا نتكلم عن حبكة لها أن تقدم التشويق من باب مصادق عليه، لكن وبعيداً عن ذلك يبقى للانعتاق وقعه على الشاشة، من يفارق القضبان ومن يعبر الحدود وكل من يخلف وراءه الخطر والمأساة.
كل ما تقدم يضعنا أمام فيلم خاص جداً لنا أن نختبر فيه كل المفاهيم التي قدمنا بها، الفيلم هو Essential Killing «قتل أساسي» للمخرج البولندي جيرزي سكوليموفسكي، الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وجائزة أفضل ممثل لفينست غالو في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي، ولعل الفيلم متمركز حول الهروب بكل ما يحمله من تجليات وإن كان القتل سيكون نقطة ارتكاز رئيسة للفيلم ليس العنوان إلا معبراً إليها، لكن هنا القتل لمواصلة الهروب، للنجاة ومتابعة ما سيكون مغلقاً وموصوداً من البداية، لكنه هروب اضطراري، هروب تقوده المصادفة، ويبقى يتوالى إلى ما لا نهاية من دون آمال كبيرة، لا بل من دون أمل على الإطلاق.
يضللنا فيلم «قتل أساسي» وهذا أجمل ما فيه، يبدأ من أفغانستان ونحن نرى ثلاثة رجال مسلحين يبحثون في الجبال الجرداء عن شيء ما، ليس هذا هو المهم، هناك رجل يرتعد خوفاً بانتظارهم معه «أر بي جي»، ومن ثم سرعان ما يفجرهم، الرجال الثلاثة الأميركان الذين يكونون برفقة طائرات هوليكوبتر، ومن ثم يتم إلقاء القبض على ذاك الرجل الذي سنعرف بالكاد أن اسمه محمد (فينست غالو)، ومن ثم سيكون تمركز الفيلم على محمد الذي لن ينطق حرفاً واحداً من أول الفيلم إلى آخره، وسيكون السرد على الدوام مبنياً على اللقطات والمشاهد والمواقف.
في التحقيق لن ينطق بحرف واحد، هو لا يسمع كما سيوحي لنا المؤثر المتعلق بالطنين الذي يحتل أذنيه،كل شيء يؤكد لنا أنه من «طالبان» وهو الآن في «غوانتانامو»، إذ سيتعرض لكل ما شاهدناه من ذاك السجن، إلى أن يتم نقله ومجموعة من السجناء بالطائرة ومن ثم الحافلات، إذ يتبدل المكان تماماً ونمسي في صدد مكان مغمور بالثلوج كما لو أننا في آلاسكا، وللمصادفة فإن السيارة التي تقل السجناء تتعرض لحادث وتنقلب، ما يتيح لمحمد الهروب، لكنه سرعان ما يكتشف غباء ما يقوم به، فلا شيء أمامه سوى الثلوج وهو حافي القدمين، ولا أمل له بالخلاص، فنجده يعود إلى المكان الذي تحطمت فيه السيارة، يمشي وهو رافع يديه، ليجد عنصري أمن مشغولين عنه، الأول يتكلم بهاتفه مديراً له ظهره، بينما الآخر داخل السيارة يستمع لموسيقى صاخبة وعلى أعلى الصوت. استسلامه سرعان ما يتحول إلى تجديد للهروب، فهو يقترب من رجل الأمن رافعاً يديه ومنادياً عليه من دون أن يسمعه، فلا يجد نفسه إلا مستلاً للمسدس الذي يحمله رجل الأمن فيقتله، بينما رجل الأمن الثاني لا يسمع شيئاً؛ بسبب الموسيقى العالية فيطلق النار أيضا على الآخر، وهنا يدخل في نفق الهروب اللامتناهي، وبتوصيف أدق هنا يتورط محمد بالهروب ويواصله إلى النهاية.
ستلاحقه الكلاب والطائرات، سينجو ولكن يا لها من نجاة، هناك الجوع، هناك التجمد برداً، والمواقف التي ينجو منها ستكون دائماً على آخر نفس، وعبر القتل، القتل الأساسي لمواصلة الهروب، وهنا سيدخل المشاهد مع الفيلم في تتبع الهارب الذي يفرض عليه الهروب، سينتقل من موقف مؤلم إلى آخر أشد إيلاماً، سيأكل لحاء الأشجار، سيأكل سمكة نيئة يسرقها من صياد يصادفه، سيقتل أحد قاطعي الأشجار بمنشار كهربائي لينجو، لا بل سيقوم بمهاجمة امرأة يراها ترضع ابنها الصغير، ويحاول أن يرضع منها عله يحصل على حليب يجعله يواصل الحياة، وعلى هذا المسار يمضي هروبه الأشد إيلاماً من السجن، وكل ما نعرفه عن شخصيته يتمثل بالفلاش باك الذي يعاوده في أشد اللحطات العصيبة التي يمر بها، حينها نعود إلى نتف من حياته في أفغانستان، وما عدا ذلك فإن إيقاع الفيلم سريع وخاطف، وعلى تناغم مع كابوس الهروب، أو تلك الكلاب التي تحيط به من كل جانب، إيقاع له أن يلتقط أنفاسه لدقائق هي لالتقاط أنفاس الشخصية نفسها.
نهاية الفيلم مدهشة، فحين يمضي محمد ليستسلم للنوم في العراء والثلج محيط به من كل جانب، يوقظه كلب، ويمضي محمد يجرجر خطواتـه إلى أن ترمي به في بيت امرأة لها أن تعتني به، ولنعاين محمد للمرة الأولى وهو بين جـدران بيت ومدفأة وكل ما تسعى المرأة إليه هو تضميده من الجرح النازف، ومن ثم نراه في الصباح ممتطياً لخيل بيضاء سرعان ما تصير مضمخة بدمائه، واللقطة الأخيرة في الفيلم للخيل مبقعة بدمائه لكن من دون محمد.
رهان الفيلم ناجح تماماً في جعلنا نعيش ما يعيشه محمد، إنه مبني برصانة عالية، ما من لقطة زائدة وما من أخرى ناقصة، المسار مرسوم بعناية، هناك لقطات لا تنسى، والبيئة في هذا السياق لها أن تكون عامل حسم، السرد بصري بالمطلق، ولعل الحوار فيه لا يتعدى ما مجموعه 10 دقائق وذلك في بداية الفيلم، وإن أردنا المرور على الفيلم باعتباره يحكي عن أحد أفراد «طالبان» وأفغانستان وما إلى هنالك، فالأمـر لا أهمية له، إنه فيلم عن الإنسان في ظروف حالكـة مداناً أو غير مدان، الإنسان الملاحق الذي تحاصره الطبيعة، الإنسان القاتل الذي يقتل ليواصل الحياة، وبعبارة ختامية: الإنسان المجبر على الأمل على الرغم من انعدامه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news