فيلم «الطـيور» مستعاداً من الواقع
تناقلت وسائل الإعلام خبراً متعلقاً بتعرض الطلبة في مدينة سيدني الأسترالية إلى هجمات منظمة من طيور المدينة تستهدف طعامهم، وعلى شيء من تسببها بجروح وأذى لمن حاولوا الدفاع عن طعامهم، بما حول ذلك ذلك إلى مطالبات من قبل أهالي وسكان المدينة للحكومة باتخاذ اجراءات للحد من هذه الهجمات التي تتزايد يومياً، بينما جاء رد السلطات بعدم اتخاذها أي إجراء في هذا الخصوص بحجة أن الطيور محمية رسمياً كون بعض أنواعها مهدد بالانقراض، لا بل إن طالباً في كلية حقوق دفع غرامة مالية لإقدامه على قتل أحد الطيور المهاجمة.
ما تقدم ملخص الخبر، الذي ربط كما تم تداوله بفيلم ألفريد هيتشكوك الشهير «الطيور» ،1964 ولعل ذلك بديهي ومنطقي، لا بل إن الأمر يعود بي إلى ما يقرب السنتين حين نشرت «الإمارات اليوم» خبراً متعلقاً بتعرض نساء في الشارقة لهجمات من قبل الغربان، طبعاً دون منطق يمكن الوقوع عليه كما فيلم هيتشكوك تماما، إلا عند حصر الهجمات بالنساء الفلبينيات، الأمر الذي يزيد من غرائبية الحالة، ويجعلها صالحة أكثر للسينما منها للواقع، حينها كما هو متوقع لم يتبادر إلى الذهن سوى فيلم هيتشكوك، ولعل معلم التشويق الأول صالح بامتياز لهذه الهواجس، كما كتبت يوماً في هذه الصفحة عن فيلمه «سايكو» ما مفاده: «كلما دخلت الحمام تذكر هيتشكوك»، بالعودة إلى تكريسه لجريمة الحمام وكل ما فيها من هلع؛ كون الجسد يكون مسترخياً وعارياً وتلقيه الطعن ذو وقع مضاعف عن أي مكان آخـر، ولكم أن تحصـوا إن كان بمقدوركم كم تكرر ذلك في السينما في آلاف الأفلام إلى أن صار تقليداً سينمائياً، الأمر نفسه يمتد، ويدفعني للقول إنني وكلما كنت أمام أسراب طيور فإن هاجس طيـور هيتشكوك لا يفارقني.
لكن ربط الخبر بهيتشكوك يقودنا أيضاً إلى العودة إلى كتاب «هيتشكوك ترفو» وما يخبر هيتشكوك تريفو عن فيلم «الطيور»، بما يضعنا أمام ما قدمه هيتشكوك سينمائياً وربطه بواقع يتحدث عنه، فعدا كون الفيلم مستوحى من قصة كتبتها دافنيه دومورييه، فإن هذه الأخيرة استوحتها من أحداث واقعية ومرده إلى مرض يصيب الطيور مثله مثل الكلب حسبما يورد هيتشكوك، هذا إضافة إلى قوله إنه اثناء تصوير الفيلم في خليج «بوديغا» قرأ خبراً في جريدة تصدر في سان فرانسيسكو حول غربان تهاجم نعاجاً «وذلك كان يجري على مقربة من موقع التصوير، والتقيت فلاحاً وضح لي كيف هبطت الغربان لقتل نعاجه بفقء العيون، وأوحى ذلك لي بموت المزارع بعد فقء عينيه».
أهم ما في فيلم «الطيور» أن هذا السلوك الذي تمضي به الطيور لا يكون قادماً من قبل طيور جارحة: نسر، صقر.. إلخ، بل من طيور عادية نصادفها في حياتنا اليوم مثل الدوري، الغربان، النوارس وغيرها من أنواع تنفلت من عقالها في فيلم هيتشكوك، طبعاً الفكرة مجنونة، وجنونها قادم من جهة، كون ذلك غير مرتبط بالبحث عن مسببات ذلك، أو حسبما يصفها تريفو «مضاربة تأملية، نزوة مزاج» إنها الطيور التي ترى فيها تلك المرأة العجوز شيئا ينبأ بالخطر، إنها الطيور التي ستزداد شراسة، والتي سنراها تتدافع من مدخنة المدفأة في مشهد لا ينسى. يستوقفني في حوار تريفو مع هيتشكوك إحالة ذلك إلى القنبلة الذرية التي كانت ومازالت أكثر الكوابيس تهديداً للوجود البشرية، قائلاً: «غير متوقع استبدال القنبلة بألوف الطيور مكانها»، ولأقول بدوري لا أبدا وهذا ما أكده هيتشكوك، لكن الفيلم بالتأكيد كانت قنبلة فجرت مسالك عدة نحو أفلام حاكت هيتشكوك، ولعلي وكلما رأيت فيلم تشويق وإثارة جيداً كان أو سيئاً أردد: «كله منك يا هيتشكوك».
حين يقول تريفو لهيتشكوك: «ينبغي أن تصنع قصة عن زهور يسمم أريجها البشر» فيجيبه هيتشكوك «لا لا، ينبغي إظهار زهور تلتهم البشر»، وكثيراً ما أفكر بأن هناك فارقاً كبيراً بين شاعرية المقترح والجواب المدجج بالمشهدية لدى هيتشكوك، فقط قارنوا بين الفكرتين بصرياً لتجدوا كم هو الانتصار محقق بصرياً وكم هو مروع أيضاً أن تلتهم الزهور البشر بدل أن تسمم.