أورسون ويلز و«محاكـمة» كافكا سينمائياً
هناك من يتسرب من الأحلام والكوابيس، أو أنه موجود أصلاً في اليقظة وهو يتهمك بتهمة لا تعرف ما هي! وأنت تقبلها لا عن طيب خاطر بل بإيقاظ شعور الذنب المعد سلفاً والمصادق عليه من جهات عدة وجدت لتشتغل على حضوره من دون أي منطق، ذلك أنه ما من منطق أساساً لوجود هذا الذنب، وأنت لم ترتكب شيئاً يستدعيه.
مقدمة سريعة على شيء من شذرات صغيرة، مما سيحمله ما يلي ونحن نتعقب فرانز كافكا (1883 ــ 1924) في السينما، وعلى شيء من «الكافكاوية» التي سرعان ما نتخطاها إلى تحويل ذلك التوصيف إلى ما يقودنا إلى أورسون ويلز (1915-1985) وهو يمسك بكافكا ويعتصره ليمسي «ويلزياً»، وربما العكس صحيح.
ما من نيات أدبية في ما تقدم، النية سينمائية خالصة، ولعل حضور فرانز كافكا في هذا المقال ليس تتبعاً لأعماله الأدبية بقدر ما هو تعقب لهذه الأعمال في السينما، التي إن كنا مشغولين بها فإننا سنغلب «المحاكمة» كما قدمها أورسون ويلز عام ،1962 على «المحاكمة» كما قدمها ديفيد هيو جونز عام ،1993 وقد حولها إلى سيناريو الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر، كون الأخير أشد وفاءً للرواية بالمعنى الأدبي مما صنعه ويلز بها، كما أن حديثنا لن يمضي بنا إلى «القصر» الرواية الشهيرة الثانية لكافكا كما قدمها ميكائيل هينكه عام 1997 في فيلم تلفزيوني مميز، لكن سنلاحق كافكا متناثراً ككاتب وانسان وهو يدخل «القصر» في فيلم ستيفن سودربيرغ «كافكا» .1991
حين نقول «المحاكمة» فيلم أورسون ويلز، فإننا سنكون أمام مثال استثنائي للكيفية التي تعالج فيها الرواية سينمائياً، بالبناء على ما تقوله وأخذه إلى مناطق يجد فيها ويلز قراءته الخاصة لهذا العمل الخالد. هنا سيكون تمديد المعاني على أشده، والوسيط السينمائي حاضر أولاً في بناء العوالم التي يستوحيها، والمعالجة البصرية في أعتى تجلياتها، ولطالما كانت الرواية بالنسبة إليّ كابوساً طويلاً، وبكلمات أخرى رواية جسدت كابوساً طويلاً مازال يهيمن على العالم، ويتجول في أرجائه، أنت تستيقظ وتجد رجلين يقولان لك أنت قيد الاعتقال وسبب ذلك أنك لم تقم بشيء أبداً، ومن ثم يتتابع كل شيء في هذا السياق، أنت في المحكمة التي تصلها لا تعرف كيف، لا بل إن موعد الجلسة يتم تحديده من دون وقت محدد، مع ذلك فإن «جوزيف ك» يكون هناك بينما القاضي يقول له لقد تأخرت، وصولاً إلى خضوعه للحكم الذي لا يصدر أساساً، والذي يفضي إلى قتله، هكذا دون سبب سيتحول مع توالي المتاهات التي يعبرها «جوزيف ك» إلى نوع من الخلاص، ولسان حاله يقول: «اقتلوني لأرتاح من وطأة عقدة الذنب الهائلة التي أمست تكبر وتكبر كما كرة الثلج».
إنها رواية حسب ألبير كامو «تقدم كل شيء ولا تجزم بشيء»، ليكون هذا التوصيف مغايراً تماماً لدى مخرج بحجم أورسون ويلز، فهو يريد أن يجزم بأشياء، يأخذ الرواية ويرمي بها في مساحات ستكون من ابتكاره هو، سيخلق معالجة بصرية تضيف إلى الرواية ما يراه ويلز بوصفه كائناً إبداعياً يجد في «المحاكمة» الرواية متكأً لما يود قوله بخصوص العصر الذي هو فيه، ونحن نرى من البداية «جوزيف ك» (انتوني باركينز) يستيقظ وأمامه رجل مجهول يقول له إنه قيد الاعتقال، ولننسى بعد ذلك الرواية ونمضي مع ويلز، حيث سنكون أمام الكثير من الشخصيات المضافة، والمشاهد المبتكرة، التي سيمليها أولاً التقاط ويلز لروح العمل عبر الكلمة المفتاح لها أي «المتاهة» وهكذا يصبح الانتقال بين اللقطات والمشاهد نوعاً من المشي في السراديب والممرات، والخروج من مكان إلى آخر، إذ يكفي أن يتلقى «جوزيف ك» ورقة صغيرة أثناء متابعته حفلاً موسيقياً ليخرج منه ويمضي من المسرح إلى المحكمة التي لا يعرف أين تقع ولا متى موعد محاكمته، الأمر الذي يتم في الرواية من خلال تلقيه مكالمة هاتفية ينسى أن يسأل مخاطبه عن الموعد والمكان، إذ يكفي أن يفتح الباب ليكون أمام جمهرة كبيرة جداً من الناس في محكمة، وما أن يغلق الباب حتى ينتهي كل شيء، لكن سنراه في هذه اللقطة صغيراً جداً مقارنة بالباب المنيف الذي يقف أمامه، ووفق هذه الآلية يغوص «جوزيف ك» في متاهة لا تنتهي، تبدأ من العمل الذي يصوره ويلز مكاناً وسيعاً جداً فيه مئات المكاتب الصغيرة المتراصة والمتلاصقة والكل منكب على عمله، بحيث يبدو ذلك بمثابة خلفية لـ«جوزيف ك» المتحرك في هذه الأجواء، يفتح باب إحدى الغرف فيقع على أحدهم يعاقب الشرطيين الذين قاما باعتقاله لأنهما فاسدان، وهكذا في تنقل له منطق الحلم، من مكان إلى آخر، والمحامي الذي جسده أورسون ويلز نفسه سيكون بمثابة مساحة أخرى للإخضاع، مثلما هو كل شيء، مثلما هو عم «جوزيف ك» وابنة عمه التي لا يراها إلا من خلف الزجاج، وصولاً إلى النساء اللواتي يتعاقبن عليه ولا شيء فيهن إلا الابتزاز واستجداء الحب، أو الاستهزاء والمراقبة كما سيكون عليه في غرفة الرسام تيتوريلي.
أمام تلك المعالجة المدهشة لويلز، ستحضر رؤيته الطاغية بحيث يتحول «جوزيف ك» إلى كائن «ويلزي»، فأورسون ويلز لن يكتفي بمقترحاته السردية وأخذ «جوزيف ك» إلى بدايات حضور الكمبيوتر الذي يكون بحجم غرفة كبيرة، بل سيخرج الشخصية من يأسها المطبق واستسلامها، سيوقظ ذلك في حوارات عدة وصولاً إلى النهاية التي يهزأ فيها «جوزيف ك» من قاتليه، لا بل إن القاتلين لن يتمكنا من قتله، سيضعانه في حفرة سيخرج أحدهما السكين ثم يعطيه للآخر، وهكذا إلى أن يقررا أن يخرجا من الحفرة ويتركا «جوزيف ك» وحيداً ويرميا بقنبلة عليه، ولعل ذلك يؤكد تماماً ما يقوله ويلز نفسه في هذا الخصوص «أنا متشائم تماماً لكنني أنفر من اليأس»، كما أن قراءة صاحب «المواطن كين» لشخصية «جوزيف ك» ستكون مستقاة من اعتباره مذنباً ليس لأن المؤسسات الحكومية والدينية عملت على جعل الانسان الحديث على أهبة الذنب دائماً، بل لأنه ينتمي أيضاً لمجتمع مذنب ويتعاون معه.
مشاهد من فيلم أورسون ويلز سنجد ما يقابل بعضاً منها في فيلم ستيفن سودربيرغ «كافكا» حيث المتاهات أيضاً وتلك الأرفف المليئة بالملفات، لكن بما يجعل فيلم سودربيرغ فعلاً سينمائياً يرمي بكافكا الكاتب في أعماله الأدبية، ويجعله شخصية تعيش ما تكتبه، وإن كانت أعمال كافكا رهاناً منحازاً للمجاز والخيال، فنحن سنقع على كافكا الذي جسد شخصيته جيمي آيرونز موظفاً في شركة تأمين، ونتعقب عوالمه الأدبية وهو محاصر بها، بحيث تكون صياغة السيناريو مؤسسة وفق المنطق «الكافكاوي»، وعليه سنقع من البداية على جريمة قتل يقوم بها كائن مشوه يمكن أن نرى فيه الكثير من سيزار في «مقصورة الدكتور كاليغاري»، ليتكشف أن المقتول صديق كافكا في العمل، الذي يكون في طريقه إلى القصر، والذي يحيلنا إلى رواية كافكا «القصر»، وهنا يتعرف إلى مجموعة مناهضة لهذا القصر سرعان ما يتورط بها، خصوصاً بعد مقتلهم جميعاً.
في هذا الفيلم خلطة من أعمال كثيرة لكافكا ممتزجة بنتف من حياته الشخصية، مثلما هي الحال مع علاقته بوالده، ووصيته لذلك الذي يتعقبه بقوله له إنه يقوم بحرق مؤلفاته إن لم يتمكن من العودة، وليحدث ذلك بعد أن يدخل إلى قبر يفضي به إلى القصر، وفي ذلك القصر يقع على آلة العذاب الكبيرة التي تحيلنا إلى عمل لكافكا بعنوان «مستعمرة العقوبات» من دون أن يفوتنا أن الفيلم بالأبيض والأسود عدا الجزء الذي يصل فيه كافكا القصر، حينها فقط يصبح ملوناً كرؤية مستقبلية، ولعل فيلم سودربيرغ الذي كتبه لم دوبس، يعبر على سطوح عوالم كافكا، وليكون الفيلم مؤسساً على بنية تتغلب فيها غواية وضع الكاتب ضمن أعماله على التقاط جوهر ما فيها أو الرهان عليه.