جوليان أسانغ مطلوب إلى السينما
شفافية القراصنة وســـــينما اللحظة الراهنة
هناك ما يدفع الفن دائماً إلى التقاط اللحظة التاريخية، اللحظة التي تتأسس فيها ومنها معطيات على اتصال بما يشهده العالم، والوقوع على آليات تشكيل المشهد العام الذي يعاصره البشر يومياً أو خبرياً، والبحث عن منابع أو أشخاص أو مؤسسات لها أن تكون لاعباً رئيساً في تشكيل ذلك المشهد ليكون على هذا الشكل وليس شكلاً آخر. وفي سياق موازٍ يحضر الترويجي والتجاري في ذلك الأمر، حيث المتلقي وقبل أي شيء آخر سيكون معنياً تماماً بتلقي ما هو على اتصال بما يشهد تحوله، وما يقع عليه يومياً.
نقول ما تقدم وعيننا على أسماء بعينها تقفز إلى الشاشة الكبيرة، أو تستعد للقفز إليها، ليكون حضورها بيوغرافياً وإشكالياً في الوقت نفسه، لا لشيء إلا لأنها أسهمت في المشهد العام للأحداث التي نشهدها، وهي حاضرة وآنية، ولم يمر بموتها عشرات أو مئات السنين، لا بل إنها عناصر شابة يمكن للفيلم الذي يصنع عنها أن تبقى تشاهده لـ40 سنة مقبلة على الأقل.
ما تقدم يدفعنا إلى القول إن ما سنكون بصدده هو تسليط الضوء على من لهم أن يكونوا أصحاب اللحظة التاريخية سابقة الذكر، ونحن نستعيد فيلم The Most Dangerous Man in America «الرجل الأخطر في أميركا» 2009 الوثائقي الذي قدمته جوديث ارليتش، وقد شاركها الإخراج أيضاً ريك غولد سميث، الذي يتناول من يحمل هذا التوصيف أي دانيال ايلسبيرغ صاحب واحدة من أكبر التسريبات الصحافية في تاريخ أميركا المعاصر من خلال وثائق البنتاغون عن حرب فيتنام التي نشرها عام ،1970 طبعاً وبداهة الحديث عن ايلسبيرغ سيقودنا مباشرة للحديث عن جوليان أسانغ و«ويكيليكس» ونحن شهود على تسريب يفوق حجماً وتأثيراً ما قام به ايلسبيرغ في السبعينات من القرن الماضي.
القفز إلى أسانغ يأتي من الخبر الذي نشرته «فارايتي» عن تكليف الكاتب روان جوف ــ صاحب فيلم «الأميركي» بطولة جورج كلوني ــ بكتابة سيناريو عن حياة هذا «الهاكر»، وملابسات نشره 250 الف وثيقة تطايرت في شتى أرجاء العالم، وأحدثت ما أحدثت من أثر، وكل ما أحيطت به شخصية أسانغ وما تعرض له وما عرض الآخرين له، حيث سيكون انتاج هذا الفيلم مشتركاً بين «بي بي سي» و«اتش بي أو»، وعلى شيء من التقاط تلك اللحظة سابقة الذكر وتسليط الضوء سينمائياً على واحد ممن شكلها ويشكلها، خصوصاً أن كتباً كثيرة صدرت في الآونة الأخيرة عن صاحب «ويكيليكس»، منها ما أقرأه حالياً بعنوان «داخل حرب جوليان أسانغ على السرية»، عن قصة جريدة «الغارديان» مع أسانغ، كون نشر وثائق «ويكيليكس» تم بالاتفاق مع صحف عالمية محددة من بينها «الغارديان» و«نيويورك تايمز» وصحف أخرى، وقد جاء على ما يبدو دور الشاشة الكبيرة لتولي أمر هذا الرجل الذي دوّخ العالم وأميركا في المقام الأول كونها المصدر الرئيس للوثائق المسربة.
هنا الحديث مغرٍ جداً للبحث عن من نصفهم هنا بأصحاب اللحظة، فنحن أمام شخصيات تقنية أولاً، وأخلاقيات جديدة مرتبطة بسلوكيات «الهاكرز» إن صح الوصف، وتسخير تلك القدرات على القرصنة في خدمة ما ردده أسانغ عن الشفافية، وتحول هذا المنادي بالشفافية إلى متحكم بها حسب ما يجده هو شخصياً مناسباً، وعلى شيء من تقاسم السلطة مع السلطات التقليدية، بما يجعله صاحب جمهورية خاصة به، افتراضية، لكنها تفرض حقائقها على الجمهوريات الواقعية، بما يجعله خطراً محدقاً يحدد هو بنفسه كيف على هذا الخطر أن يولد أو يوظف ويسخر، هنا أسانغ يشكل ما له أن يقودنا إلى شخصية أخرى تولت السينما أمرها أخيراً من خلال فيلم ديفيد فينشر «الشبكة الاجتماعية» حيث الحديث عن شخصية أخرى هي مارك زكربيرغ «الهاكر» أو القرصان الآخر على قائمة من يشكلون بشكل أو آخر مسارات الأحداث واللحظة التاريخية التي تعيشها مناطق كثيرة في العالم على رأسها المنطقة العربية ونحن نتكلم عن 27 مليون مشترك عربي في الـ«فيس بوك»، كما طالعتنا آخر إحصائية في هذا الخصوص.
في مقاربة فينشر لزكربيرغ هناك الكثير مما يضيء على هذا الأخير، لا بل إن الفيلم متمركز حوله في بناء درامي مدوّر، يرتد ويتقدم ويتحرك في الزمن ببراعة ليضع أمامنا «بورتريه» لهذه الشخصية وملابسات ما أسس عليه شبكته الاجتماعية في اختلاط للشخصي بالعام، ودون أن يكون هناك من تميز بينهما، إنه التمركز حول الذات التي تصنع ما تشاء، والتي كما قرأت في عدد من مراجعات عربية للفيلم ضاعت من كثر تولي مهمة الكتابة عن هذا الفيلم محملين إياه آراءهم مسبقة الصنع، والتي راحت تتحرى الفيلم وفق منطقهم الذي عليّ وصفه بالمنطق الذي أكل عليه الزمن وشرب، فما هو غير منطقي بالنسبة إليهم هو منطق ما يصاغ العالم عليه، ونحن في عالم «الأفكار الصغيرة» التي تفضي إلى أحداث كبيرة ومضاعفة، ولعل الإصرار على عظمة من يصنع شيئاً عظيماً ما عاد وارداً أساساً، هذا إن قبلنا بمفهوم التعظيم اساساً، ولعل حجم المفاجأة التي أوقعهم فيها الفيلم هو تماماً ما يؤكد أنهم في عالم آخر تماماً، بينما من يشكل عالم اليوم مغايرين تماماً لما صيغت عليه أفكارهم، ولعل صدمتهم بالفيلم تأكيد على ذلك.
تحول اسانع إلى ديكتاتورية معلوماتية، وهذا ليس اتهاماً، هذا طبيعي، إن «الشفافية» لديه تحوله إلى متحكم ومسيطر على الشفافية، وبما يدفع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى أن تحتفي بالماضي بشخصيات مماثلة لأسانغ واصفة إياهم بـ «المفكرين المستقلين الذين يسخرون الأدوات» مبدية مخاوف عليهم من قبل الديكتاتوريات، وعينها حينها على إيران في هذا الخصوص، ولتقول بعد تسريبات «ويكيليكس» إن «ما حدث ليس هجوماً على المصالح السياسية الخارجية الأميركية، بل هجوم على المجتمع الدولي».
شفافية أسانغ الممسك بتلابيبها والمصر من خلالها أن يكون متحكماً وحاضراً ومؤثراً، يقابلها ما يقول عنه زكربيرغ «الشفافية الراديكالية» هو الذي يصنع الأدوات التي حدثتنا عنها كلينتون، لكن يبقى السؤال عن الكيفية التي توظف فيها تلك الأدوات، والتي يحلو لي وصفها أي الأدوات على طريقة أوسكار وايلد «أعطني قناعاً لأقول لك الحقيقة»، وهنا الأدوات هي تماماً القناع وما تبقى متروكا للحقيقة التي يقدم من خلالها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news