فيلم مأخوذ عن كتاب نعومي كلين

«عقيدة الصدمة».. الــرأسمالية المتوحشة والخراب العـــابر للقارات

صورة

هناك ما ترغب في نشره بأكثر من ما هو منتشر أصلاً، وإيصاله إلى أكبر شريحة من الناس، أمام هذا المسعى المشروع يحضر الفيلم، وبكلمات أشد تحديداً، نقل كتاب من الأوراق إلى الصورة والشاشة، وتلخيص ما يحمله بحيث يمسي من يراه قادراً على الإلمام بما قدمه من دون قراءة، وبالتالي وضع أهم افكار ذاك الكتاب أمام المشاهد بعد أن كان مقتصراً على القراء هنا ومن البديهي سيكون الانتشار أوسع.

هذا التقديم متعلق بفيلم The Shock Doctrine «عقيدة الصدمة» للمخرجين الإنجليزيين مات وايتكروس ومايكل وينتربوتم، الأول الذي قدم العام الماضي «جنس، مخدرات، وروك آند رول»، والثاني كما عرفناه في فيلمه الشهير «الطريق إلى غوانتانامو»، اللذين سيقدمان معادلاً بصرياً للكتاب الشهير «عقيدة الصدمة» للكاتبة والناشطة الكندية نعومي كلين، وعلى شيء يجعلنا حيال المحاور والمفاصل التي بنت عليه كلين نظريتها في ما يتعلق بهذه الصدمة التي تأسست عليها سياسات تحرير الأسواق والكوارث التي توالت على البشرية من جرائها.

الفيلم يستدعي أفلاماً كثيرة تنتمي لفئة «فهرنهايت 11/9» و«الرأسمالية: قصة حب»، لكن من دون استعراضية مايكل مور، وأفلام أخرى تتمركز حول فضح آليات الرأسمالية، وتسليط الضوء على المغيب عن الإنسان العادي، والمرجعيات الأخلاقية والفكرية التي تتحكم بأصحاب القرار وصناعه، لا بل إن الأمر يمتد بي إلى أن «فهرنايت 11/9» نفسه موجود ككتاب، ولا أتذكر حين قمت بشرائه إن كان ذلك بعد انتاج الفيلم أم قبله، لكن مع نعومي كلين فأنا متأكد من أن الحضور الأول للكتاب، ولعل الفيلم المتأتي منه، ليس إلا معبراً بصرياً لمحتواه، ونبشاً أرشيفياً لكل ما يحمله من معلومات وأرقام ووثائق.

الفيلم يأتي في سياق مناهضة الرأسمالية المتوحشة العابرة للقارات، والسياسات الإمبريالية، ولعل بنية الكتاب المأخوذ عنه وثائقية بامتياز، فالعنوان هو الجملة الناظمة لكل محتواها، فهو يبدأ من الدكتور دونالد هب وتجاربه النفسية على الإنسان من خلال مبدأ الصدمة، التي سرعان ما تبنتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في آليات استجوابها الموقوفين والمتهمين، حيث الصدمة تفقد قدرة الذي يجري معه التحقيق على المقاومة، وبالتالي يمسي طيعاً ومستجيباً لما يتلقاه، لكن هذا المفهوم سرعان ما ستنقله كلين إلى سياسات الولايات المتحدة في العصر الحديث، محيلة المشاهد إلى عالم الاقتصاد ميلتون فريدمان، الذي سيكون عراب اقتصاد السوق وتحرير الأسواق وخصخصتها، معتبرة رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر، ورئيس أميركا السابق أيضاً رونالد ريغان، أول من نفذ تلك السياسات كما هو معروف.

الفيلم كما أسلفنا متمركز حول مفهوم «الصدمة»، فبعد أن تعرفنا إلى البنية التي تأسس عليها هذا المفهوم، فإننا سننتقل إلى تطبيقاته حول العالم، والدور القذر الذي لعبته الإدارة الأميركية في هذا الخصوص، حين يتم تصديره إلى دول كثيرة حول العالم، وليبدأ الفيلم من أميركا اللاتينية، ومن تشيلي أولاً ومن ثم الأرجنتين والبرازيل، وذلك من خلال ما يسمى «صبيان شيكاغو» الاسم الذي يحمله مجموعة من طلاب تلك البلدان، تتلمذوا على يد فريدمان، وهنا سيمضي الفيلم وفق آلية لا يحيد عنها إلى النهاية، وهي متمثلة في الانتقال من بلد إلى آخر مورست فيه سياسة الصدمة الاقتصادية ومن ثم العسكرية، وليتخلل ذلك مقاطع من محاضرات كلين التي تعقب أو تلتقي مع ما نشاهده.

فمع تشيلي، توضع أمامنا سياسة الصدمة مع الديكتاتوريات العسكرية، ونحن نرى كيف قامت الاستخبارات الأميركية بدعم انقلاب بينوشيه ضد سلفادرو إليندي واغتياله بقصف القصر الرئاسي، وذلك بعد نجاح هذا الأخير في تقديم نموذج ديمقراطي ماركسي أرّق كثيراً أميركا من جراء نجاحاته الكبيرة في سياساته الاقتصادية والسياسية، ولنكون بعد استلام بينوشيه مقاليد الحكم حيال ظلم وعسف كبيرين حلا بهذا البلد، ومع ذلك يحضر فريدمان ونصائحه التي تفضي بالديكتاتور إلى تطبيق أفكار الصدمة الاقتصادية وتحرير الأسواق، وبالتالي تحويل الشعب إلى جحافل من الفقراء وتمركز المال في يد قلة قليلة ممن يدورون في فلك بينوشيه ونظامه المتوحش.

قبل المضي إلى أمثلة أخرى، فإن تمركز رأسمال المال في يد قلة قليلة ستكون النتيجة الحتمية لتحرير الأسواق وإلغاء القطاع الحكومي وتحويل الدولة إلى شرطي في خدمة الاحتكارات، وبالتالي اتساع رقعة الفقر وضمه طبقات جديدة تشكل غالبية الشعب، وحصر المال في يد حفنة من الرجالات، وبالانتقال إلى بريطانيا سنكون أمام مثال آخر من سياسات الصدمة، له أن يكون إضاءة عليها في الحكومات الديمقراطية، ولنكون أمام مناهضة كبيرة لسياسات تاتشر، خصوصاً مع النقابات العمالية وإضرابات عمال مناجم الفحم، التي سرعان ما تتخلص منها جميعاً عبر صدمة أخرى تتمثل في إعلان الحرب، والمقصود هنا الحرب البريطانية الأرجنتينية والنزاع على جزر «فوكلاند» وهنا ما يضيء على الآلية المتبعة عند هكذا حكومات، فإن جوبهت الصدمة الاقتصادية بمعارضة كبيرة فليس هناك من خيار سوى اللجوء إلى العدو الخارجي، ومن ثم، بعد انتصار بريطانيا كما هو معروف، فإن الاستثمار في هذا النصر سيكون شاغلاً عن أمور أخرى لها أن تمنح تاتشر فترة حكم ثانية حققت من خلالها صدمتها الاقتصادية في تحرير الأسواق، مع اتباع ذلك في الفيلم بمعدلات الفقر، وتمركز المال والأرباح الهائلة التي تحققها الشركات التي تبتلع كل شيء.

سيمضي الفيلم إلى العراق على اعتبار الحرب على العراق «الحرب الأكثر خصخصة في التاريخ» كما يرد على لسان كلين ، بما يوضح أيضاً كيف طبقت سياسة الصدمة عليه، وهنا تلتقي الصدمة النفسية بالاقتصادية بالعسكرية»، وكلنا يتذكر مفهوم «الصدمة والترويع» الذي اتبع في قصف العراق عند غزوه، مروراً بآليات التعذيب التي تشكل التطبيق الحرفي لنظريات الدكتور دونالد هب، وصولاً إلى الصدمة الاقتصادية وتبخر كل ما كانت عليه المؤسسات العراقية قبل الغزو، وتمركز رؤوس الأموال في يد قلة قليلة.

العراق يمثل ما له أن يكون انهيار الدولة الكامل، وإعادة تشكيلها من جديد على هدي سياسات بريمير، الذي يلتقي إلى حد ما مع ما يسلط الضوء عليه الفيلم في مكان آخر، ألا وهو الاتحاد السوفييتي وانهياره أيضاً، وسياسات يلتسين في هذا الخصوص في تفكيكه القطاع العام وبيعه بأسعار بخسة لمجموعة من رجالات الأعمال، والكيفية التي تبدت فيها الديمقراطية المزعومة التي لم تلقَ إلا الثناء من قبل الغرب بينما يلتسين يقوم بقصف البرلمان بالدبابات.

أكتفي بما تقدم من أمثلة يمر عليها الفيلم تفصيلاً، وليبق كتاب نعومي كلين أكثر شمولاً بما يمتد إلى تعزيز الأمثلة بتفاصيل كثيرة، وبما يجعله أيضاً مادة وثائقية صالحة لأن تحضر في فيلم كما الفيلم المأخوذ عنه، لا بل إن الأمر يمتد إلى كون بنية كتاب كلين فيلمية بالمعنى الوثائقي للكلمة، حيث الكلمة المفتاح هي «الصدمة» والمادة الأرشيفية هي للتدليل عليها وتتبعها في مناطق كثيرة في العالم بوصفها الآلية التي تتحكم بقرارات الدول الكبرى، والكفيلة بتحقيق كل هذا الخراب في العالم.

تويتر