عن مي سكاف وفارس الحلو وآخرين

نجومية تنحاز إلى الشـارع بعيداً عن الاستديو والأضواء

صورة

الأمر مُغرٍ تماماً بتتبع الأحداث في سياق سينمائي، ولعل ذلك تم ارتكابه على هذه الصفحة مراراً ونحن نجعل من رواية الانتفاضات العربية مساحة وثائقية بامتياز تقف على النقيض من سردية الأنظمة التي تأتي روائية، وذلك ينتقل إلى الشارع نفسه حين نرى في إحدى التظاهرات في سورية لافتة تعتبر الحوار «مسلسلاً درامياً لا أكثر». وعلى هدي ذلك تمسي الحالة السورية مختبراً حقيقياً لما له أن يكون مجابهة عميقة بين الروائي والوثائقي، خصوصاً أن القنوات الفضائية غير مسموح لها بتغطية الأحداث، وبالتالي يترك للروائي أن يكون مساحة مفتوحة على مصراعيها أمام التلفزيون السوري الرسمي بحيث تأتي التغطية مأخوذة تماماً بسيناريو معد سلفاً، بمعنى أن الأسماء واضحة والسياقات مصادق عليها مسبقاً، وعليه تأتي الصورة في خدمة هذه الأغراض التي تتفق تماماً مع سردية النظام للأحداث، لكن وكأداة سردية مجابهة تأتي الصورة التي تحملها الهواتف النقالة والتي تكون مهتزة ومحمولة وغير واضحة، لكنها ذات أثر أكبر من تلك الصورة الرصينة ذات السيناريو المعد سلفاً. وهنا يحضر الوثائقي الذي يبقى حاملاً هذه الصفة طالما أنه منقول عبر الشبكات الاجتماعية أو «يوتيوب»، وليحمل صفة الوثائقي والروائي في آن معاً عندما ينتقل إلى الفضائيات لأنها تحمل أيضاً روايتها خصوصاً حين تمسي «الكليبات» مجتمعة تحت مظلة التقرير الصحافي الذي يقابله روائياً الراوي، وتطويع الصورة وتناغمها مع المسرود كلامياً.

بعد تلك المقدمة الطويلة فإن ما له أن يكون طبيعياً جداً في نقل الصورة بكاميرا محمولة أو كاميرا هاتف محمول، أي اهتزاز الصور وغير ذلك، وهي عناصر تخفف من كمال الصورة، هو تماماً ما استعمل في السينما لجعلنا على اتصال بالواقع أكثر، وعلى شيء يطابق على سبيل المثال القواعد التي وضعها سينمائيو «دوغما 95»، إذ على الأفلام أن تكون مصورة بكاميرا محمولة بما في ذلك اللقطات الثابتة مع الابتعاد عن الموسيقى التصويرية ما لم تكن متأتية من مسجل أو أداة واضحة في الفيلم، وغير ذلك مما نشاهده في أفلام تريد نقل الواقع فتمضي خلف خيارات مماثلة متقشفة، إذ يمتزج الوثائقي بالروائي.

لكن هناك تطور من نوع خاص له أن يأتي في السياق السابق، وتحديداً سورياً، فالممثلون يتظاهرون طلباً للحرية، وعليه يمسي الممثل يؤدي دوراً على الأرض من دون كاميرا، وعلى شيء من المشاركة الفاعلة مع ما يجده هؤلاء الفنانون فعلاً ينقل الفن من الشاشة إلى الأرض، لكن مع حدوث ذلك تُنسى الكاميرا تماماً، فتظاهرة حي الميدان في دمشق الخميس الماضي التي شارك فيها ممثلون ومخرجون وكتاب سوريون لم تصور كما يجب، ولم تخرج علينا في «كليب» كامل، كان يكفي ذكر الأسماء المشاركة حتى يقع الأثر كاملاً، فالفعل هنا مديني وتقدمي بامتياز، والأسماء التي شاركت ستضعنا أمام تقسيم ثان بعيد عن الروائي والوثائقي، إلى ما له أن يكون تقسيماً للنجومية السينمائية والفنية، والمستويات التي تتحرك فيها، فالنجم أو النجمة صاحب سلطة وصدقية، لكن هذه السلطة يمكن توظيفها في اتجاهات ومستويات عدة، وتحديداً مع غياب الاستقلالية، وعليه تمسي الأسماء الكبيرة اللامعة على اتصال بالسلطات السياسية، مصادقة لكل ما تريد ومتسقة تماماً مع النهج الذي تتبعه، وبالتالي تمسي سلطة مطابقة لها، وعلى الطرف الآخر تتحول تلك السلطة إلى فعل تمردي وثوري، رافض وصارخ ومستند بالكامل إلى فاعلية هذا الصوت وقدرته على المصادقة على الفعل الجماهيري والاتصال به وتعميمه بالفعل وليس بالكلمات، هنا يكون الشارع المعبر، والخوض به خروجاً عن الاستديو والإضاءة والماكياج.

ممثلة مثل مي سكاف لها أن تكون كذلك تماماً، التي أفرجت عنها السلطات السورية أمس، إنها هي تماماً لمن يعرفها، لمن يعرف كيف لها أن تجد في الفن فعلاً ثائراً. تضيق بالدراما وهي تقدم أدوراً هنا وهناك منتقاة بعناية، تعشق المسرح، تتطلع للتغيير، وعلى هدي مسعى دائم للالتصاق بما هو متطلع وتجريبي تأتي السينما كخيار نادر في سورية وآخر دور شاهدته لها كان في فيلم محمد عبدالعزيز «نص ميليغرام من النيكوتين»، إنها تمثل كما هو فارس الحلو الذي يقول عن مشاركته في التظاهرة على صفحة «فيس بوك» الخاصة به «أحسست بأنني أسمع صوتي لأول مرة»، نمطاً خاصاً من النجومية، لنا أن نسميها بـ«النجومية الشعبية» بالمعنى الثوري لكلمة الشعبية، والمرتبطة بالموقف وتحمل كامل الثمن المترتب على الصدق مع الذات، والسعي الدائم لبناء هوامش يجدون فيها الحقيقة كل الحقيقة أمام زيف الأضواء والمتن.

هذا يمتد إلى أسماء كثيرة اعتقلت الخميس الماضي، المخرج السوري نضال حسن صاحب فيلم «بشرة مالحة»، حيث الوثائقي ممتزج تماماً بالروائي بوصف ذلك متطابقاً تماماً مع ما نعيشه، وجعلنا على اتصال به في ذاك الفيلم وهو يتعقب فتية طرطوس في فعل مجاورة للبحر، كما هو أيضاً في الوثائقي الذي قدمه العام الماضي«جبال الصوان».

أسماء كثيرة يمكن الحديث عنها، هناك كتاب سيناريو اعتقلوا في تلك التظاهرة وهم يصوغون السيناريو على الأرض دون أوراق كما هو الحال مع ريما فليحان ويم مشهدي، المصور مظفر سلمان ترك كاميرته والتقط اللحظة دون أداته الأثيرة، وطاقم عمل كامل قرر أن يكون طاقم حرية كاملاً، بحيث تصبح الأدوار التي جسدها كل من مي سكاف وفارس الحلو وآخرون موجودة على الأرض، إنها أدوار لا تفصل بينها وبين المشاهد شاشة.

تويتر