« طريق العودة ».. كـم من الأميال لملامسة الأمل
قد يبدو الوصول مستحيلاً حين تكون المسافة التي تفصلك عنه 400 ألف ميل، وعليك أن تقطعها مشياً على الأقدام! وقد ينجز هذا المستحيل لكن أي ثمن سيدفع لتحقيق ذلك؟ ما هو الظلم الذي يُهرب منه ليدفع أحدهم لخوض غمار رحلة مترامية إلى هذا الحد؟ أسئلة قد نعثر على إجابة عنها في فيلم بيتر وير The Way Back «طريق العودة»، بما يجعلنا نتمركز حوله والمصائر التي يقدمها وهي تنازع من أجل البقاء.
هناك ما يتدافع في هذا السياق، هناك عوالم مفتوحة على مصراعيها حين يحضر القرار بالهرب، وإن كان هذا الهرب يقود إلى ما هو أشد قسوة مما يهرب منه المرء، لكن حسبه يمضي في فضاء حر، ولعل المصير المتشكل أمام الهارب ينذره بأنه سيلقى حتفه إلا أنه في النهاية سيفضل أن يموت حراً على أن يموت بين الأسوار الشاهقة وكل ما يطاله هو الظلم والقهر والاضطهاد.
فيلم وير يمضي تماماً في هذا السياق، يضعنا أولاً وقبل أي شيء آخر أمام مشهدية خاصة ومتنوعة وعلى تناغم مع ما تمليه المسافة المترامية التي سيقطعها أبطال الفيلم، وللفيلم أن يكون مبنياً على الظلم والهرب والنجاة، كما لو أننا نقسمه إلى ثلاثة فصول وبكلمات أخرى إلى ثلاث كلمات لها أن تشكل مفاتيح الفيلم، فنحن في أواخر الثلاثينات، والستالينية على أشدها، والمنفى السيبيري في أعتى تجلياته، حيث مئات الآلاف يرسلون إلى معسكرات الموت هناك، وأولهم يانوس (جيم ستاغروس) الذي نقع عليه من البداية وقد وشت به زوجته تحت التعذيب ليمسي جاسوساً وفق المنطق السوفييتي، ويرسل إلى سيبيريا لتمضية عقوبته التي تمتد 20 سنة، وهنا سندخل معه في نفق عذاب طويل، وتصوير استثنائي ـ نعرف واير به ـ لحيوات المعتقلين في سيبيريا، فهناك وحشية السلطات جنباً إلى جنب مع المناخ ومع السجناء أنفسهم، وفي التقاء تلك العوامل يبدو الموت نجاة من هذه الحياة، لكن إن تم استبعاد الأمل بالهرب من هذا المصير، ولعل الأمل بهذا المسلك مدعاة لليأس أيضاً طالما أن الطبيعة تمارس حراسة المعتقلين وهي قادرة على الأقل وبمنتهى السهولة أن تتوعدهم بأن يتجمدوا من البرد إن فكروا بالهرب وهذا أقل المصائر سوءاً وصولاً إلى أن سكان القرى التي تحيد بمعسكر الاعتقال على استعداد لقتل أي سجين هارب طالما أن هناك مبلغاً من المال ينتظرهم إن هم فعلوا.
لكن يبدو الموت ماثلاً أمام يانوس البولندي إن هو بقى في المعتقل، وبالتالي لا مفر من الهرب، الأمر الذي يحزم أمره اتجاهه في المناجم التي يجبر على العمل بها، الأمر الذي ينضم إليه أكثر من ستة سجناء بمن فيهم الأميركي مستر سميث (إد هاريس) والروسي فالكا (كولين فاريل) الذي ينضم إليهم بسكينه أي لأنه يملك سكينا فقط وهو مختلف عن كامل المجموعة التي تكون عبارة عن مفكرين وتقنيين وفنانين، بينما فالكا ليس إلا من هؤلاء القتلة الذين يتحكمون بمصير السجناء بوصفهم رديفاً للحراس.
يمكن القول ان الفيلم مع هرب هؤلاء سيمضي خلف الحياة في أعتى تجلياتها والمتمثلة بغريزة البقاء، والقدرات الخارقة للإنسان ليبقى ناجياً، وهنا يحضر اصرار يانوس وذكاؤه كعنصري حسم في ذلك، ولتكون رحلتهم خروجاً من سيبيريا إلى منغوليا وصولاً إلى الهمالايا، ومن ثم الهند، وكل ذلك مشياً على الأقدام، وكل الأدوات التي بحوزتهم، هذا إن كانت أدوات، تكون بدائية ومتقشفة، وعليه سنشاهدهم يأكلون الجيف بعد أن يطردوا عنها الضباع، سيأكلون الديدان، سيكون الماء في صحارى مانغوليا نادراً، وما أن يحصلوا عليه حتى تباغتهم عاصفة رملية، وليختزل عددهم إلى أربعة في النهاية، فالكا حين يصل حدود مانغوليا يتوقف عن المتابعة، فهو لا يستطيع العيش خارج روسيا، بينما البقية سيلقون حتفهم بمن فيهم الفتاة التي تنضم إليهم في ما بعد.
الفيلم ينتمي إلى أفلام كثيرة مضت خلف قصص النجاة المدهشة، ورهانها على ما يصير عليه الإنسان في هذه الظروف التي لا تنتمي إلى أي شيء إنساني، والقصة كما يرد في الفيلم قصة حقيقية، وهنا تمسي الدراما فعلاً تصعيدياً قادماً من الطبيعة، خصوصاً أن شخصيات الفيلم ستكون على وفاق شبه تام، بمعنى أن الصراع الدرامي سيكون صراعاً مع الطبيعة التي تقسو ونادراً ما ترق، وبالتالي فإن فعل النجاة والعقدة الدرامية ستكون عبر المراحل التي يمرون بها، وعلى هدي مؤشر اليأس والأمل، الاصرار والاستسلام، الأمر الذي لا يطال يانوس الذي يبقى على ما هو عليه من البداية من اصرار ومواظبة.
يعيد الفيلم إلى الذهن أفلاماً كثيرة، دون أن يفوتنا الإشارة إلى جماليات بصرية استثنائية يحملها واستثمار خاص في البيئات المتنوعة وتوثيقها جنياً إلى جنب مع حيوات الشخصيات، وفي رهان رئيس على ذلك، ولعل آخر فيلم شاهدته على اتصال بفيلم «طريق العودة» هو فيلم «قتل أساسي» للمخرج البولندي جيرزي سكوليموفسكي، وليكون الأخير متمركزا حول شخصية واحد يمسي القتل معبرها الوحيد للنجاة بما يفضي إلى نهاية مأساوية ونحن نرى الفرس البيضاء في نهاية الفيلم مضمخة بالدماء وذلك بعد خوضه شتى أنواع الصراعات مع طبيعة لا ترحم في ألسكا الشبيهة بسيبيريا، بينما يحمل «طريق العودة» كل مقومات النهايات التي تعدنا بالأمل والاشراق بعد مصاعب جمة.