بين كوبولا وأورويل وكونراد
كوابيس سينمائية مثــل زفرة الصدق الأخيرة
كابوس أم حلم، أيهما أبقى؟ السؤال أبعد ما يكون عن مساحة نقدية! إنه على شيء من استخدام وردة، ومن ثم نزع بتلاتها بالقول: «كابوس حلم، كابوس حلم»، إلى أن تصل آخرها فتستقر على كابوس، لا لشيء، وليس لأن في الأمر قدرية أو حتمية، لكن على شيء من الإجابة البسيطة والمدوية التي تقول لنا مازال الكابوس متواصلاً، ويأتي الحلم رداً على هذه الكابوسية، ولعل الكتابة هنا ستكون على شيء من المسعى لتسليط الضوء على هذا الكابوس سينمائياً، وعلى شيء من الكاميرا الذاتية بعيداً عن الكاميرا الموضوعية.
العقيد كيرتز يبقى لغزه مرابطاً قادراً على إيقاظ الكوابيس برمتها، يمكن لكوبولا في «القيامة الآن» أن يصور ذلك في فيتنام، بينما كيرتز لغز آخر خارج من رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام» في أدغال إفريقيا، تحالف اللغز مع الأعماق الإنسانية سيقودنا حتماً إلى الكابوس، كابوس الحقائق العارية، الأول سينمائياً سيكون في الحرب وجحيمها، ومع ذلك ملمح من كيرتز الروائي الذي يجد في قلب الظلام ملاذه وخلاصه وكوابيسه، الأول يحيط به القتل من كل جانب، ويصطدم في عالم مجهول تماما بالنسبة إليه فيجد فيه كل ما على الانسان أن يكونه، والبدائية هي الحقيقة الكبرى، بدائية الشعوب الآسيوية في «القيامة الآن» وهي تتلقى قنابل «النابالم» الأميركية مترافقة مع موسيقى فاغنر والأجواء الجهنمية، وبدائية الأفارقة في رواية كونراد والعاج هو كل ما يبحث عنه الرجل الأبيض، بينما كيرتز مشغول بالخلاص بالبحث عن الجوهري في الإنساني.
في الفيلم يقول كورتز: «لقد شهدت الأهوال، لكن ليس لك أن تدعوني قاتلا، لك أن تقتلني، لكن ليس لك أن تطلق حكمك عليّ، من المستحيل للكلمات أن تصف ما هو ضروري لأولئك الذين لا يعلمون ما يعنيه الرعب، الرعب، للرعب وجه، ومترتبٌ عليك أن تصادقه، الرعب والترويع الأخلاقي هما صديقاك، إن لم يكونا كذلك، فهما عدوان مترتبٌ عليك خشيتهما، عدوان حقيقيان». بينما في الرواية يقول كيرتز «كان عليّ ـ بسبب من خطاياي كما أظن ـ أن أجرب عذاب النظر في داخلها بنفسي، لم يكن لأي بلاغة أن تكون أكثر تدميرا لإيماننا بالجنس البشري مثل زفرة الصدق الأخيرة».
كلاهما وقع في غواية المجهول، الأول في الفيلم كولونيل يعلن انشقاقه عن الجيش الأميركي، وليتعامل معه سكان القرية التي يلجأ إليها كما لو أنه إله، الأمر نفسه بالنسبة لكيرتز الأصلي في رواية كونراد، إلا أنه مجرد موظف في شركة للبحث عن العاج، كلاهما على حافة المجهول يكتسبان الرؤية، يغوصان عميقاً في النفس البشرية، وتتحول حياتهما إلى كابوس بشري من شدة حقيقتها ومسعاها للحقيقة.
الكابوس سابق الذكر سنجد له بيئة خصبة أخرى بعيدة عن المجهول قريبة أكثر من الواضح والمعيش، وهنا يطفو كابوس العيش في ظل الأنظمة الديكتاتورية، والثنائية التي سنقع حيالها ستكون أيضاً تنقلاً بين الرواية والفيلم، وتحديداً فيلم 1984 لمايكل رادفورد، ورواية جورج أورويل الشهيرة المأخوذ عنها، وهنا تطالعنا واحدة من الشخصيات الأثيرة أدبيا وسينمائياً، أي وينستون سيميث، ولعل ما بدأنا به بكون الكابوس أبقى من الحلم يجد شرعيته من خلال هذه الرواية وهذا الفيلم، إذ إن أورويل وحين تأليف تلك الرواية عنونها بعام 1984 بوصفها رواية مستقبلية، وعلى شيء من قلب العام الذي كتبت فيه أي عام ،1948 وهو يتحرى ما صارت أو ستصير إليه الستالينية، وليبقى هذا الكابوس الديكتاتوري حاضراً في أرجاء كثيرة من العالم بعيدا عن الستالينية الآن، وإن مستقبلية الرواية تخطت ،1984 وبقيت مجازاً لما يمكن أن يصير إليه الانسان في ظلها، ونحن نرى سميث تحت رقابة كاملة من الشاشة الموجودة حتى في شقته وصولاً إلى الطائرات التي تتفقده كما كل من يعمل في الحزب الخاضع لسيطرة الأخ الأكبر وتحت شعار يتمثل في «الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة».
كل شيء تحت وطأة الأخ الأكبر، صوره في كل مكان، كلامه مقدس، الحرب متواصلة، الخراب معمم، وأي ميل في التفكير سيودي بصاحبه إلى تعذيب يجعله في النهاية ينفي بنفسه كل ما فكر فيه، مسح دماغه كاملاً في حالة سميث بعد أن يخوض قصة حب وجيزة مع جوليا، إنه الرجل الروبوت الخاضع بالمطلق للأخ الأكبر، كل تفكير ممنوع خارج تبجيله وتقديسه، وحين يقترف هذا الذنب ويمنح لإنسانيته مساحة خارج ذلك، والحزب الذي يرصد كل شيء علينا أن نسمع سميث وهو يقول عن العذاب الذي يتعرض له «في ميدان القتال أو في غرفة التعذيب أو على متن سفينة تغرق، تغدو القضايا التي تحارب من أجلها طي النسيان دائماً، ذلك لأن جسدك يظل يتضخم حتى يملأ عليك العالم فلا ترى سواه».
في «1984» المعالجة السينمائية للرواية ليست مثل «القيامة الآن» ففي الأخير يكون المأخوذ من رواية كونراد جوهرها، بينما في الأول فإن الفيلم هو معادل بصري مبني بحنكة لرواية أورويل دون اجتهادات كثيرة على صعيد الأحداث الرئيسة، وهنا ننتقل إلى كابوس سينمائي من نوع آخر دون أن يكون مأخوذا عن رواية، وهو فيلم يوناني بعنوان «ناب» ليورغوس لانثيموس، إذ إن ما يقدمه هذا الفيلم يلتقي بما تقدم مع توصيف الكابوس، ولعله أقرب إلى 1984 لكن من خلال عائلة يمارس فيها الأب دور «الأخ الكبير»، إذ يمارس مع ابنه وابنتيه وزوجته شتى أنواع الديكتاتورية التي تجعلهم جميعاً سجناء بيت محاط بالأسوار.
الأب يحتكر كل شيء، ممنوع على الزوجة والأبناء مغادرة البيت، وكل ما يتلقونه يأتي من خلاله، بما في ذلك لغتهم وتعريفهم للأشياء فالمسدس هو طائر أبيض جميل على سبيل المثال، وهو كذلك طالما أن الأب قد قال ذلك، ولا يمكن للأبناء مغادرة البيت إلا عند سقوط الناب من الفك، وفي الوقت نفسه لا يمكن الخروج إلا باستخدام السيارة، ولا يمكن تحقق ذلك إلا عندما ينبت الناب من جديد، الناب اليسار أو اليمين ما من مشكلة في ذلك، ما يعني ووفق هذه القواعد أن الأبناء محكومون بسجن أبدي، المحكومية هنا مصاغة منذ الولادة، فكل ما تم تلقينه للأبناء مؤسس لتحقيق هذا الغرض، والانقضاض على ما كانوا عليه من البداية بوصفهم «عجينة» يجري تشكيلها حسب الأب الديكتاتور.
ومع هذا الفيلم نصل إلى نهاية صياغة ما قصدنا في البداية وصفه بالكابوس، ولعله أمضى حين يأتي متسلحاً بسرديات سينمائية خاصة، ذلك أن تلك الكوابيس مازالت متواصلة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news