السينمائي والواقع

الثورة فيروس فتّــاك والحرب بين السكّان الأصلييـن والمهاجرين

صورة

هناك معادل سينمائي لكل ما يحمله الواقع، الحقيقة صارخة في هذا الخصوص، ولعلها كذلك عندما نمضي مع الخيال بوصفه ابناً شرعياً للواقع، وربما العكس صحيح، فالمخيلة في قفزاتها إلى الأمام تتكئ على معطيات واقعية وبقفزاتها تلك تمهد الطريق لتطور ما يمكن له أن يكون خيالياً في ما مضى، لكنه سرعان ما يمسي واقعياً ومفرط الواقعية، مثلما هو الصعود إلى القمر الذي كان مادة خصبة لأفلام الخيال العلمي قبل تحققه، وليصبح الآن مادة وثائقية إن صح الوصف.

لكن ووفق ما أسعى لتتبعه هنا، فإن أفلاماً خيالية أخرى عن مصاصي الدماء والأوبئة الفتاكة التي تجتاح البشر، وتحولهم إلى وحوش مسعورة سيجد ما يوازيه على الأرض الآن، خصوصاً مع ما يشهده العالم من انتفاضات وثورات، لا بل إن ما يمر به هذا الكون أشبه بنقطة انعطاف استثنائية تتخطى الثورات إلى المجاعات والانهيارات الاقتصادية وعلى شيء مما يجعل هذا العالم على أعتاب انقلابات جذرية.

لكن وبالعودة إلى الانتفاضات التي اندلعت في عالمنا العربي، وانتقلت إلى بقاع أخرى من العالم فإننا لن نتبع فيلماً مثل «البارجة بوتمكين» ليمنحنا مجازاً لمسببات الثورات، وإن كان الفيلم عن ثورة أكتوبر الروسية، وقد سبق أن كتبت عنه في هذا السياق تحت عنوان «ثورة تبدأ من صحن حساء»، لكن سيكون الأمر أكثر انحيازا للمخيلة في إحالة ما نشهده في هذا العالم إلى فيلم لم يخطر بمن شاهده بأنه صالح للاتكاء عليه للإضاءة على وقائع نشهدها الآن، ألا وهو فيلم داني بويل 28 Days Later «بعد 28 يوماً» والذي اتبع بفيلم آخر يستكمله بعنوان 28 weeks later «بعد 28 أسبوعاً» من إخراج جوان كارلوس فرسناديلو، والذي يحكي عن اصابة سكان لندن بفيروس فتاك يحولهم إلى وحوش بشرية تفتك ببعضها، ولتنجح القوات الأميركية في توفير مساحة معزولة في لندن تكون خالية منه ومن المصابين به، لكن هذا الفيروس سرعان ما يتسرب إلى تلك الرقعة التي تكون بمثابة آخر أمل.

يكفي لمن لم يشاهد هذين الفيلمين أن يتتبع ما سبق ذكره لنقل ذلك إلى الواقع الذي نعيشه، بمعنى أن هذا الفيروس هو تماماً ما تلجأ إليه الأنظمة في تفسيرها لما تجابهه من انتفاضات، بمعنى أن الحديث عن حبوب الهلوسة هو تماماً مماثل لهذا الفيروس، وبالتالي نقل ما له أن يكون مطالب محقة لشعوب تعاني الظلم والفقر والاضطهاد إلى مساحة تسعى لنزع الصفات الانسانية عن الجموع وتحويلها، كما في الفيلمين سابقي الذكر، إلى مجرد جموع هائجة أصيبت بفيروس فتاك جعلها متمردة ومخربة تنهش كل ما تقع عليه، وهي ليست إلا عصابات إجرامية، وبالتالي تحضر هنا شرعنة قتلها كما في «بعد 28 أسبوعاً»، حيث الدعوة إلى إبادة جميع من أصيبوا بهذا الفيروس، الأمر الذي نصادق عليه كمشاهدين حين تبدو تلك الجموع ميؤوس من شفائها وهي ليست بأكثر من وحوش يجب إبادتها لتعود الحياة إلى طبيعتها، والحفاظ فقط على من يعيشون ضمن المحمية الخالية من ذلك الفيروس.

هذا تماما ما نشاهده الآن في بلدان عربية لها أن تعتبر شعبها مصاباً بلوثة أو وباء، ومن ينادون بالحرية ليسوا إلا عصابات يجب قمعها وقتلها والتخلص منها بشتى الوسائل، وهناك مجموعة من العبارات والتوصيفات تم تداولها، ونقلها من بلد إلى آخر، كلها تتمركز حوله هو تحويل الشعوب المتمردة على عسف حكامها إلى مصابين بفيروس فتاك، ذلك أن تمركز الحاكم على نفسه والتصاقه بكرسي لا يفارقه سيجعلهم كذلك في نظره، دون أن يلتفت إلى ما هو عليه، خصوصا أنه سيكون قد مضى زمن طويل في حالتنا العربية لم يعرف فيه شعبه إلا قطيعاً مروضاً لا يخرج عن طوعه هو الراعي الذي لا يشق له غبار.

وبالانتقال إلى لندن يمسي ما تقدم وارداً تماماً على ألسنة المسؤولين الانجليز، وعلى رأسهم رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، حيث الاضطرابات التي شهدتها لندن وانتقلت إلى مدن انجليزية أخرى ليست إلا من أفعال عصابات إجرامية وتجار مخدرات وغير ذلك، وإن كانت مجابهتها مختلفة عما تشهده بلدان عربية لا تؤمن إلا بالقتل والرصاص الحي، لكنها في النهاية تلتقي عند المنطق نفسه من النكران وتأطير المحتجين في توصيفات مسبقة الصنع لنزع الشرعية عن مطالبهم، وتحويلهم إلى جموع مصابة بفيروس التمرد الفتاك، ولعل ما شهدته لندن تخطى كل ما قام به المتظاهرون في بلدان كسورية واليمن.. إلخ، حيث النزعة للتخريب كانت كبيرة جداً، ومجابهته كانت تحت مظلة القانون، ومع ذلك تمضي حكومات البلدان التي تقتل شعبها في التركيز على أحداث لندن كما لو أنها تقول «انظروا حتى الحكومات الديمقراطية تقوم بقمع المتظاهرين»، خصوصاً مع تأكيد كاميرون أنه قد يستعين بالجيش لإحلال الأمن، ولكي نبقى منصفين فإن مقارنة بين حكومة تجابه التظاهرات بالرصاص الحي، وأخرى استدعى استخدام العصي وخراطيم المياه جدلاً برلمانياً ستكون غير عادلة.

اللافت أن الفيلمين سابقي الذكر تجري أحداثهما في لندن، الأمر الذي يقودني إلى فيلم ثالث له أن يجد في العاصمة البريطانية مساحة لأحداثه، وهنا سيكون الفيلم (أطفال الرجال 2007) بمثابة رؤية لما يحدث الآن وإن كان يمضي خلف الخيال حتى آخره، ففي هذا الفيلم شاهدنا لندن مدمرة وقد اجتاحتها ثورة شعبية عارمة سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية بين السكان الأصليين والمهاجرين، وليبقى السؤال ألم تكن الشرارة الأولى لأحداث لندن الأخيرة قادمة من مقتل شاب زنجي على يد الشرطة، وكل المخاوف الآن أن تأخذ الأحداث منحى عنصرياً، ونحن نشهد مقتل ثلاثة شبان مسلمين على يد شاب دهسهم بسيارته، والخوف كل الخوف الآن أن تتحول الأحداث إلى أحداث عنصرية دامية، الأمر الذي يمتد إلى كامل القارة الأوروبية وأسابيع قليلة تفصلنا عن تفجيرات أوسلو.

تويتر